الجمعة، 6 فبراير 2015

فى «الكتاب الأمريكانى» (رحلة 21 يوما من هدم الأساطير فى واشنطن وأخواتها).. «عبيه» يكشف لك أمريكا التى ترفض أن تعرفها

بعد سنوات من العزوف عن إصدار الكتب الجديدة، فاجأنا الكاتب الصحفى محمد هشام عبيه بـ"الكتاب الأمريكانى"، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، عن دار المصرى للنشر والتوزيع.
وهو كتاب يمكن تصنيفه ضمن أدب الرحلات مرة، والسياسة مرة أخرى، والتاريخ، وربما القصة القصيرة، وأحيانا الكتابة الساخرة. جمع فيه عبيه مشاهداته خلال 21 يوما، قضاها فى أمريكا، أعاد خلالها بناء وعيه، وتنقيح صورته التقليدية عن هذا العالم، ورسم صورة أخرى مغايرة لمجتمع نتصوّر طوال الوقت أننا نعرف عنه الكثير، ونفهمه، ونأخذ منه موقفا حاسما، لكن عبيه يثبت –بالنكتة والتاريخ والصورة والموقف- أن هذه أسطورة أخرى من ضمن أساطير كثيرة يسعى لهدمها.
يقول عبيه على الغلاف الخلفي لكتابه: (هذا ليس كتابًا عن أمريكا التى تعرفها عبر أفلام هوليود، وسهرات حفل توزيع جوائز الأوسكار، أو مسلسلات الأكشن والخيال العلمى متعددة الأجزاء. لن ترى فى هذه الصفحات زيارة لتمثال الحرية، أو لقاء مع الرئيس فى البيت الأبيض، أو صورة من أعلى ناطحات سحاب مانهاتن، لكنك ستذهب فى رحلة إلى "رأس البر" الأمريكية، وتلمس قطعة من سور برلين فى قلب واشنطن، وتسمع مقاطع شعر لـ"جبران خليل جبران" فى حديقة بالعاصمة الأمريكية، وتشارك فى سهرة مجنونة لطرد الأرواح الشريرة مع عشرات الآلاف فى نورث كارولينا، وتتناول الغداء على شرف سيناتور أمريكي فى سياتل، وتواجه جنرالا شارك فى غزو العراق، وتهرب من الأكل الحلال فى نيويورك، قبل أن ترى بنفسك كيف يتم تأديب ضباط الشرطة، وكيف يتم "تزوير" الانتخابات فى أهم دولة فى العالم، أهلاً بك فى "الكتاب الأمريكاني").
قراءات في الكتاب
النُّصُب التذكارى للرئيس جيفرسون يضمّ نماذج لكتب الأديان السماوية الثلاثة
القصة المثيرة لرخام الكونجرس وحجارة البيت الأبيض
الأمريكيون يلعبون بالدراجات حول مبنى الكونجرس.. والحديقة الموجودة فى محيطه مكان رئيسى للتنزُّه والتقاط الصور
واشنطن العاصمة بها 17 متحفًا من بينها متحف الفضاء الذى يضمّ أجزاء من صخور القمر ومتحف الهنود الحمر الذى ليس به أى أركان أو زوايا!
وسيم الهيئة صاحب ابتسامة كفيلة حتما ب«تدويخ» مراهقات الشارع الذى يسكنه فى واشنطن. عرف نفسه لنا بالعربية بوصفه مرشدنا ومرافقنا فى الجولة. اسمه عربى باقتدار.. حمزة. لبنانى الأصل لكنه مولود فى أمريكا، من النادر أساسا أن تجد مواطنا أمريكيا خالصا ونقيا؛ غالبية الأمريكيين حتما تعود جذورهم إلى واحدة من قارات العالم البعيدة.
عندما بدأ حمزة فى الحديث اكتشفنا من أول لحظة أن تاريخ وثقافة أمريكا محفوظان فى ذهنه مثلما يفعل أى هارد ديسك بسعة تيرابايت. سيل من المعلومات كان يتدفق علينا كلما عبرنا على مبنى أو على شارع أو مررنا بتمثال أو حتى مجموعة أشجار. فى كل ركن حدوتة وحكاية خفية يعرفها حمزة.
ما أهم شىء يمكن أن تزوره فى واشنطن دى سى؟ يسألنا حمزة بطريقته الجاذبة، قبل أن يتكفل بالإجابة قائلا إن فى العاصمة الأمريكية 17 متحفًا، يمكن لكل واحد منها أن تقضى فيها يوما كاملا دون ملل، لكن إلى أين سنذهب يا حمزة وجدولنا مزدحم للغاية وإقامتنا فى واشنطن لن تزيد على خمسة أيام؟ تبشرنا عايدة، مرافقتنا الدقيقة ذات الجذور الفلسطينية، بأننا سنظفر بزيارة «نيوزيم» (متحف الأخبار) فى الغد، حسن.. ظفرنا بواحد من أصل 17 متحفًا، احكِ لنا مزيدًا يا حمزة.
نمر على مبنى أثرى فخيم يمتدّ على مساحة كبيرة، يقول مرشدنا العزيز «هذا مكتب البريد الأمريكى الرئيسى، تم بيعه لأحد أكبر الأثرياء فى أمريكا مؤخرا، سيغيّر نشاطه بكل تأكيد، لكنه لن يستطيع أن يغير شيئًا فى واجهة المبنى.. هذا هو القانون هنا»، نتحرك قليلا قبل أن يشير حمزة إلى مبنى ضخم وصامت كأنه مهجور قائلا «هذا أبشع مبانى أمريكا على الإطلاق.. FBI.. الشرطة الفيدرالية الأمريكية»، المبنى كئيب فعلًا ولا يقلّ كآبة عن مبنى وزارة الداخلية فى مصر، يبدو أن هذا هو حال الأمن فى كل الدنيا. المفارقة أن مبنى FBI فى واشنطن يقابله فى الناحية الأخرى مبنى وزارة العدل، تمامًا مثل وزارة العدل فى القاهرةالتى لا تبعد سوى عشرات الأمتار عن مبنى الداخلية.
وجهتنا الأساسية فى الجولة هى زيارة المكانين الأشهرين فى واشنطن.. البيت الأبيض والكونجرس. فى الطريق إلى البيت الأبيض نمر على السفارة الكندية. لا يدع حمزة هذه المعلومة تمر علينا مرور الكرام. يقول «هناك غرض أساسى من وجود السفارة الكندية بالقرب من البيت الأبيض، وهو أن الكنديين شاركوا البريطانيين فى إحراق البيت الأبيض عام 1814.. وهذه رسالة مفادها (اجعلوا أصدقاءكم قربين، واجعلوا أعداؤكم أقرب»، لكن حمزة لم يروِ لنا أن مشاركة الكنديين فى حرق البيت الأبيض ونهب محتوياته جاءت بعد قيام أمريكا نفسها بغزو مدينة تورنتو الكندية وإحراق مبنى البرلمان فى عام 1813.
يتحدث حمزة مجددا وهو يشير إلى مبنى أنيق إلى يسارنا «هذا هو متحف الهنود الحمر، وكما ترون هو بلا زاويا. مبنى دائرى.. لأنه فى تراث الهنود الحمر الأرواح الشريرة تسكن فى الزاويا.. فجعلوه بلا زاويا»، هذا متحف غريب وجدير بالزيارة بكل تأكيد، لكننا سنكتفى بمشاهدته من الخارج فحسب، ومعه كذلك متحف الفضاء الذى يجاوره، والذى يضم بداخله جزءا من أحجار القمر.. تخيل أن تكون على بعد أمتار من رؤية وربما لمس جزء من القمر لكنك لا تستطيع بسبب ضيق الوقت!
تتوالى المعالم: وزارة النفط، متحف الفنون الحديثة، وزارة الزراعة، وهى عبارة عن مبنيين ضخمين متقابلين على يمين ويسار الشارع وهى أكبر مبنى وزارى فى أمريكا قاطبة، يقول حمزة مازحا «يتندر أهل واشنطن بأن عدد العاملين فى وزارة الزراعة أكبر من عدد الفلاحين الموجودين فى كل الولايات» قبل أن يستدرك فى جدية «لا تنسوا أن الزراعة هى اللى عملت الولايات المتحدة»، ثم يشير بحيادية وتعبير لا يعكس أى انفعالات سلبية أو إيجابية إلى مبنى أحمر أنيق لكن «دمه تقيل» قائلا فى اقتضاب «هذا متحف الهولوكوست»، نلمح نموذجًا ضخمًا للصليب النازى الشهير متكسرَ الأطراف، الرمز واضح «ها هنا انكسرت النازية». بالدخول على موقع المتحف على الإنترنت سأعرف لاحقًا أن المتحف تأسس عام 1933، أى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر! تَخيَّل! وأنه طوال هذه السنوات استقبل 34 مليون زائر من بينهم 9 ملايين طفل فى سن الدراسة، وهو رقم مرعب كما تلاحظ؛ كم واحدًا منهم سيكبر وفى داخله «عقدة اضطهاد اليهود» وسيورثها لأولاده، وفى المقابل كم طفلًا فى العالم إذن يعرف الجحيم الذى يعيشه الفلسطينيون على يد الإسرائيليين؟
وصلنا بعد نحو 20 دقيقة إلى واجهتنا الأولى، البيت الأبيض. نترجل من الأوتوبيس على بعد أمتار من المكان الذى يجلس فيه أهم رجل فى العالم ويتخذ فيه أخطر القرارت التى يمكن يتوقف عليها مصائر ملايين البشر، المكان محاط كعادة المبانى فى واشنطن بحدائق وأشجار كثيفة، والاقتراب من البيت الأبيض حتى الوصول إلى سوره الخارجى لا يحتاج إلى المرور على أى حواجز أمنية، الأمر سهل وبسيط كأنك تتجه إلى سوبرماركت لشراء جبنة وحلاوة طحينية، صحيح أنه إلى جوار السوار كان عدد من رجال وسيارات الشرطة، وصحيح أن الأكيد أن المكان مؤمَّن بدرجة حرفية عالية ولكن بشكل خفى، لكننا فى دقائق معدودة، وجدنا أنفسنا نلتقط الصور التذكارية بحرية وأمان على سور البيت الأبيض فى يوم مشمس لطيف كأننا نلتقط صورًا فى حديقة الأزهر!
المكان مَهيب بكل تأكيد، ويثير كثيرًا من الأفكار فى نفس من يقترب منه، وهو يتساءل عن قرارات الحروب التى خرجت منه، وعن مليارات الدولارات التى يتم انفاقها من أجل أن يصل شخص بعينه ليجلس بداخل المبنى. لو شاهدت الفيلم الأمريكى المتقن والمثير «white house down» الذى أنتجته هوليوود فى عام 2013، وشاهده كاتب هذه السطور بالصدفة لأول مرة على الطائرة المتجهة إلى واشنطن، ستجد نفسك عرفت كثيرًا من التفاصيل عن البيت الأبيض، بخاصة أن جدول الزيارة لم يسمح لنا بجولة داخل المكان، واكتفينا فقط بجولة خارجية ومعنا عشرات من السائحين والمواطنين الأمريكيين، لكن هذه الجولة لم تخلُ من الإثارة، والبطل فى ذلك.. «كونسيلا»...
كان غريبًا أن نلمح على الرصيف المقابل للبيت الأبيض مباشرة، خيمة يبدو عليها التأثر من تعاقب الشمس والأمطار عليها لسنوات طوال، وفى واجهتها سيدة عجوز فى السبعينيات من عمرها وتحمل لافتات مناهضة للتدخل الأمريكى فى شؤون الدول الأخرى، أو استخدام السلاح النووى. عدنا إلى «ويكيبيديا رحلتنا»، حمزة طبعًا، ومَن يكون غيره؟ لنعرف منه التفاصيل، وكعادته لم يبخل علينا.
اسمها كونسيلا، من جذور إسبانية كما يتضح من ملامحها، هى معتصمة هنا أمام البيت الأبيض منذ أكثر من ربع قرن، بدأت هى وصديق لها اسمه توماس وليم فى التظاهر منذ ثمانينيات القرن الماضى ضد استخدام السلاح النووى والكيماوى فى الحروب، مات صديقها قبل سنوات بعيدة، لكنها استمرت فى رسالتها، ورغم أنه تمّ حظر نصب أى خيام للمتظاهرين أمام البيت الأبيض منذ تفجيرات أوكلاهما عام 1995 (قام بها أمريكى يتبنّى أفكار جماعة يمينية متشددة وقتل على أثرها 186 شخصًا) فإن كونسلا هى الاستثناء، لا رئيس ولا أحد يستطيع أن يزحزحها من مكانها الأثير الذى تنام فيه كل مساء لتصحو، تعلّق اللافتات وتهتف بصوت واهن لكنه صادق ضد سياسات أمريكا الخارجية، وعلى رأسها الانحياز الدائم لإسرائيل.
اقتربنا من خيمة «كونسيلا» التى يعلوها صورة لمسرب الأسرار الأمريكى الشهير سنودن، وإلى جواره علم إسرائيل موضوعا فى علامة حمراء تعنى حظره، واستقبلتنا السيدة بابتسامة طيبة، وتحمست كثيرًا عند معرفتها بأننا قادمون من بلدان عربية، وأن بيننا فلسطينيين، وأخذت تبحث فى أوراقها الكثيرة، عن لافتات تأييد لفلسطين وأهلها، ومناهضة لأفعال إسرائيل، والتقطنا معها الصور فى سعادة، ولسان حالنا يشكرها على ما تقوم به من تضامن مع قضايا لأوطان تبعد عنها مئات الآلاف من الكيلومترات.
مر الوقت سريعا، ونادانا حمزة لنتحرك صوب وجهتنا الثانية، الكونجرس، ولم يفت عليه أن يشير إلى الكنيسة المواجهة للبيت الأبيض ليقول لنا إن هذه الكنيسة بها مساحة مخصصة ليصلى فيها الموظفون المسلمون بالبيت الأبيض صلواتهم الخمسة كل يوم. هذا نمط أمريكى فى احترام معتقدات الآخرين لا يمكن أن لا أن يقدره إلا جاحد.
أصبح مرشدنا أكثر تحمُّسًا ونحن متجهون إلى الكونجرس، يتحدث عن المبنى باعتباره الأهمّ فى الولايات المتحدة كلها لا فى واشنطن فحسب، متحدثا عن قواعد راسخة فى البناء، تحتم على جميع المبانى الموجودة فى محيط الكونجرس أن لا ترتفع عنه مطلقا (القاعدة فى واشنطن: لا شىء يعلو الكونجرس». مضيفًا لمسته الخاصة «البيت الأبيض تم بناؤه من الحجر، بينما الكونجرس تم بناؤه من الرخام، ذلك لأن الحجر زائل ومؤقت، مثله فى ذلك مثل ساكن البيت الأبيض، بينما الرخام أبَدِىّ، مثله فى ذلك مثل سلطة الكونجرس، الذى هو فى الأساس سلطة الشعب.. الشعب خالد دومًا»، آه يا حمزة لو تعرف أن بلادنا تخلو تقريبًا من مبانى الرخام ولا يعمر فيها سوى مبانى الحجر الزائل!
فى الطريق إلى الكونجرس، يشير مرشدنا إلى مبنى دائرى أبيض صغير تحيط به الأشجار، يفسر أهميته «هذا هو تذكار توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة وأحد أشهر رؤسائها على مر التاريخ، هو مؤسس الحزب الجمهورى وأحد الآباء المؤسسين الذين شاركوا فى تأسيس الولايات المتحدة ووضع إعلان الاستقلال عن الاحتلال البريطانى، بداخل هذا التذكار يوجد التمثال وفى خلفيته ثلاثة كتب ترمز إلى الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية. هو أول رئيس يُدخِل الكتب السماوية الثلاثة إلى الكونجرس وأول رئيس يختم قراءة القرآن باللغة الإنجليزية، وتوجد أسفل التمثال شجيرة صغيرة من أشجار الماريجوانا، التى انتشر استخدامها فى عهده لعلاج الأمراض، ويقال إنه تزوج واحدة من العبيد، أنجب من عشرة أولاد». يصمت للحظات قبل أن يقول مبتسما «جيفرسون كان صاحب سيجارة وكأس كما ترون»، ثم يضع لمسته الخاصة مجددا قائلا «يتطلع تمثال جيفرسون إلى البيت الأبيض، كأنه يطمئنّ على سير العمل هناك ويحذر أى رئيس موجود به قائلا: انتبه؛ إن توماس جيفرسون يراقبك».
نلمح قبة الكونجرس الشهيرة على بعد أمتار، وفى مواجهتها توجد بحيرة اصطناعية كبيرة يتجمع حولها مئات فى جو صحو. يفسر لنا حمزة فلسفة البحيرة كعادته «هذه تسمى (بركة الانعكاس)، ومعناها الباطنى هو أن الله ينظر إلى الأرض فتنعكس عظمته عليها»، وجودها فى مواجهة الكونجرس مفهوم طبعًا.
يستلزم الوصول إلى مدخل الكونجرس من الخارج الصعود على درجات سلم أنيق ومتسع، كنا قد اعتدنا غياب أى حضور أمنى ظاهر فى مثل هذه الأماكن، وهكذا لم يُثِر اندهاشَنا وجود سياح يلتقطون الصور فى مرح، أو مراهقين أمريكيين يلعبون بالدراجات فى مواجهة أسوار الكونجرس وأمام أبوابه بالضبط، هذا مكان للفسحة كما تلاحظ، كيف لا وتجاوره المساحات الخضراء الشاسعة المليئة بالأشجار التى تتقافر عليها السناجب، وتسمع فيها أصوات الطيور، كأنها تغنى لنواب الشعب؟!
نلتقط الصور التذكارية كالمعتاد، فأنت لن تأتى إلى الكونجرس كل يوم. المكان هادئ زيادة عن اللزوم لأنه لا توجد جلسات بداخل المبنى اليوم، حمزة عرف ذلك من تنكيس الأعلام الأمريكية أعلى يمين ويسار المبنى، الأعلام تكون مرفوعة ومرفرفة فقط عندما تكون بالداخل جلسة. أما الأعمدة الستة والثلاثين التى تظهر فى أعلى المبنى فهى ترمز إلى الولايات ال36 التى كانت موجودة عندما تأسس الكونجرس عام 1789، أما الأعمدة الثلاثة عشر التى تعلوها، فهى ترمز إلى الولايات ال13 التى صنع اتحادها اللبنة الأولى فى دولة الولايات المتحدة بإعلان الاستقلال عن بريطانيا عام 1776.. لا شىء يتم هنا على سبيل الصدفة كما ترى.
كنت أحاول التقاط فيديو للسناجب المتقافزة عندما بدأنا رحلة التحرك مجددا، إلى أين هذه المرة؟ إلى تذكار لينكولن، وما يكون يا أخ حمزة؟ يبتسم ملوحا بيده تعبيرا عن أهمية الرجل والتذكار، قائلا «قبل أى شىء يجب أن تعرفوا أن جميع التذكارات التى تحتفل بأشخاص بعينهم فى التاريخ الأمريكى تم تشييدها استنادًا إلى التبرعات من المواطنين، هكذا يمكن أن يستغرق بناء تمثال واحد عدة سنوات بسبب البحث عن أموال، لكن المهم أن هذه ليست وظيفة الحكومة»، مفهوم. الاحتفاء بالعظماء هو دور الشعوب لا الحكومات.
تذكار لينكولن على سبيل المثال بدأ بناؤه عام 1915 ولم ينتهِ بصورته الحالية الفخمة الضخمة إلا عام 1992، أى أن بناءه استغرق ثمانى سنوات كاملة. لينكولن واحد من أشهر رؤساء أمريكا عبر تاريخه القصير، لأن اسمه ارتبط بالحرب الأهلية الأمريكية وتحرير العبيد، قبل اغتياله فى بداية فترته الرئاسية الثانية عام 1865، ليصبح أول رئيس أمريكى يُغتال فى التاريخ، لكن تذكار لينكولن الذى أصبحنا على مشارفه الآن ارتبط أيضًا بأحد أكثر الشخصيات المؤثرة فى التاريخ الأمريكى المعاصر.. مارتن لوثر كنج.
يتكون النصب التذكارى للينكولن من مبنى أبيض ضخم على شكل معبد إغريقى يعكس أهمية صاحبه. الوصول إلى داخل النصب للتطلع إلى تمثال لينكولن الضخم الجالس فيه بثقة على كرسى الحكم، يتطلب الصعود على 52 درجة من السلالم، كل درجة ترمز إلى سنة من السنوات ال52 التى عاشها لينكولن (هذا تفسير حمزة كما لعلك استنتجت)، أعلى هذه الدرجات التى تضعك على عتبة التذكار وترى منها ملامح التمثال الضخم فى ظهرك توجد منقطة مستطيلة خط فوقها كلمات لوثر كنج الخالدة «I have a dream» (لدى حلم)، هنا فى هذه البقعة تحديدا، وقف كنج ليخطب خطابه الأشهر فى التاريخ فى نحو ربع مليون أمريكى من السود احتشدوا فى ساحة تذكار لينكولن وفى ظهورهم توجد تلك البحيرة الاصطناعية الضخمة الشهيرة فى 28 أغسطس عام 1963، فى هذا اليوم زحف مئات الآلاف من الأمريكيين السود حتى تذكار لينكولن يهتفون بحقوقهم فى حياة أفضل، وكان كنج هناك ينتظرهم ليواصل معهم الكفاح الذى سيتكلل لاحقا بمنح حق التصويت فى الانتخابات للسود عام 1965، وبمزيد من الحقوق والحريات. الغريب أن صاحب التذكار وأشهر من تحدث من ساحته تم اغتيالهما بالرصاص، فكنج تم اغتياله عقب عامين فقط من خطابه الأشهر الذى ألقاه من أعلى نقطة فى تذكار لينكولن، فهل هناك لعنة تحل بمن يخطب ها هنا؟
وقفت تماما فى المكان الذى كان يصول ويجول فيه كنج، نظرت إلى الأمام إلى الساحة الخالية إلا من السائحين، بينما كانت قبل أكثر من نصف قرن تهدر بهتافات يهتز لها الكون تطالب بالحرية، خُيل إلىّ أنى أسمع نفس الهتافات الآن، وأن كنج يقف إلى جوارى ببشرته السوداء المحببة يتحدث فى حماسة وثقة ويلهب قلوب الجيمع، هذا مشهد من الصعب أن ينساه العالم. صوت الحرية يخترق الأزمان والأماكن ويعيش دوما.
فى داخل التذكار شاهدت أكبر تمثال رأيته فى حياتى.. ضخامة مفرطة ودقة لافتة فى نحت وجه لينكولن الصارم الحاسم على الصخر الأبيض، إحدى اليدين مضمومة، بينما لأخرى منبسطة، الأولى ترمز فى لغة الإشارات الأمريكية الدارجة إلى حرف A والثانية المنبسطة ترمز إلى حرف L، هذان أول حرفان من اسم «إبراهام لينكولون». المكان مهيب حقا، ويشعر فيه المرء بضاءلة واضحة أمام عظمة التمثال وعظمة منجزات صاحبه لبلاده، أركان المكان محاطة بعبارات شهيرة قالها لينكولن فى خطاب تنصيبه الأول والثانى، وأيضًا من خطاب جيتسبرج الأشهر له الذى ألقاه عام 1863 بالقرب من مقبرة الجنود الذين سقطوا فى الحرب الأهلية، وقال فى مقولته الخالدة «حكومة الشعب ومن الشعب وللشعب لن تفنى فى هذه الأرض»، ويعرف هذا الخطاب بأنه أكثر خطاب رئاسى خرجت منه اقتباسات حتى يومنا هذا.
أين لمسة حمزة فى كل هذا؟ دورها جاء. يقترب منا مبتسما، وهو يطلب أن ننظر إلى «قفا» تمثال لينكولن الضخم يقول «دققوا فى النظر من الزاوية اليسرى للتمثال.. ماذا ترون؟»، نفعل ما طلب، إنه قفا عادى يا سيد حمزة، لامع بعض الشى لكن به بعض النتوءات، و... مهلًا... ما هذا؟! إنه وجه.. قفا لينكولن يضمّ وجها منحوتا لشخص آخر لا يمكن رؤيته إلا بالتدقيق من الجهة اليسرى للتمثال فحسب! يفسر مرشدنا المخضرم رغم سنوات عمره العشرينية «هذا وجه روبرت كينى، أحد جنرالات الحرب الأهلية فى الجنوب الأمريكى، كان عدوًّا شرسا للينكولن، ومصمم التمثال وضعه فى القفا هكذا، ربما ليخلد الحرب بطريقة أو بأخرى، وربما ليؤكد أنه حتى الأعداء يمكن أن يصبح بعضهم قريبًا لبعض». يصمت قليلا ثم يضيف «الشائع أن الحرب الأهلية الأمريكية، قامت لتحرير العبيد فى الجنوب، وهذا ليس صحيحًا على إطلاقه؛ السبب الرئيسى هو أن الأموال (قالها المصارى كما يقولونها فى لبنان) كانت فى الجنوب، والعبيد كان لهم دور كبير فى نقل هذه الثروات والحفاظ عليها لأصحابها من الجنوبيين.. فقامت الحرب». تفسير جرىء يا حمزة، لكنه يضىء إشارة حمراء فى الدماغ.. لا تصدق كل ما أصبح خالدًا فى كتب التاريخ .

ليست هناك تعليقات: