الأحد، 13 ديسمبر 2015

"البروفيسور الأمريكي أفرام نعوم تشومسكي" يكتب: أمريكا تنهار؟!

المسألة باتت شائعة بأن الولايات المتحدة البلد الذي كان قبل بضع سنوات ليس إلا، يُشاد بأنه عملاق يذرع العالم بخطى واسعة ويتمتع بنفوذ لا يُضاهى وسحر منقطع النظير، أمست تسير في انحدار، مواجهةً بشؤم كبير انحلالها الأخير المتوقع... هذا ما كتبه "جياكومو كيوزا" في العدد الحالي من مجلة العلوم السياسية الفصلية "Political sciences Quarterly".
وبالفعل، يشهد هذا الاعتقاد انتشاراً واسعاً، انطلاقاً من بعض الأسباب على الرغم من أن عدداً من المؤهلات يسير في الشكل الطبيعي. في البداية، لقد انطلق الانحدار منذ بلوغ الولايات المتحدة أعلى مستويات النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية، وقد كانت الغَلَبة اللافتة في تسعينيات القرن الماضي بعد حرب الخليج تضليلاً ذاتياً في الأغلب.
ومن المسائل الشائعة أيضاً، أقله بين أولئك الذين لا يتّسمون بفقدان مُتعمَّد للمنطق، هو أن الانحدار الأميركي أنزلته إلى حدٍ كبير الولايات المتحدة بنفسها. إن المسرحية الهزلية في واشنطن هذا الصيف التي تشمئز منها البلاد وتُذهل العالم، قد لا نجد ما يضاهيها في سجلات الديمقراطية النيابية.
كما أن هذا المشهد المسرحي يبدأ في بث الذعر بين عرَّابي هذه الأحجيات، إذ بات نفوذ الشركات يبدي قلقه في الوقت الراهن من أن المتطرفين الذين ساعدتهم في الوصول إلى زمام الحكم قد يهدمون في الواقع الصرْح الذي أرست عليه ثرواتها وامتيازاتها، أي الدولة الحاضنة القوية التي تخدم مصالحها. لقد بلغت سطوة نفوذ الشركات على السياسة والمجتمع – وهي سطوة مالية في الأغلب حالياً – الدرجة التي أصبح فيها التنظيمان السياسيان، اللذان عند هذه المرحلة بالكاد يشبهان الأحزاب السياسية التقليدية، بعيدين عند أقصى يمين السكان في المسائل الرئيسية قيد البحث.
بالنسبة إلى الشعب، تشكل البطالة المشكلة المحلية التي تحتل رأس أولوياته. وفي ظل الظروف الحالية، يمكن تخطي هذه الأزمة فقط عن طريق تحفيزات حكومية كبيرة، تتخطى تلك المتخذة حديثاً، التي بالكاد جارت الانحدار في إنفاق الولايات والإنفاق المحلي، على الرغم من أن هذه المبادرة المحدودة أنقذت ربما ملايين الوظائف.
أما بالنسبة للمؤسسات المالية، فيشكل العجز مبعث قلقها الأول. وبالتالي، وحده العجز يشهد محادثات. تحبِّذ أكثرية كبيرة من السكان معالجة العجز من خلال فرض الضرائب على الأغنياء جداً (72 في المئة فيما يعارضها 27 في المئة)، وفق ما توصل إليه استطلاع مشترك بين صحيفة "واشنطن بوست" وقناة "أيه. بي. سي. نيوز". وتعارض الأكثرية الساحقة من الأميركيين خفض مخصصات البرامج الصحية (69 في المئة لبرنامج "ميديكايد" و78 في المئة لبرنامج "ميديكير")، فيما أن النتيجة المحتملة ستكون معاكسة.
في السياق ذاته، استطلع برنامج المواقف حيال السياسة الدولية "بيبا" الأساليب التي يختارها الشعب لإلغاء العجز. ويكتب مدير "بيبا" ستيفن كول: (يتّضح أن الإدارة ومجلس النواب الذي يسيطر عليه" الجمهوريون"، لا ينسجمان مع قيم الشعب وأولوياته في ما يخص الموازنة العامة).
ويظهر الاستطلاع الشرخ العميق: "التباين الأكبر في الإنفاق يكمن في أن الشعب فضَّل إجراء تخفيضات واسعة في النفقات الدفاعية، فيما أن الإدارة ومجلس النواب يقترحان زيادات طفيفة. كما أن الشعب أيّد زيادة في الإنفاق على التدريب الوظيفي والتعليم والحدّ من التلوث، أكبر مما اقترحته الإدارة أو المجلس النيابي".
أما "التسوية" النهائية، أو على نحوٍ أصح، الاستسلام إلى "اليمين" المتطرف، فهي العكس على كل الأصعدة، ومن شبه المؤكد أن تؤدي إلى تباطؤ النمو وتلحق ضرراً طويل الأمد بالجميع باستثناء الأغنياء والشركات، التي تتمتع بأرباح قياسية. وتجدر الإشارة إلى احتمال لم يكن حتى موضع محادثات، وهو كما أظهره الخبير الاقتصادي "دين بايكر"، التمكُّن من إلغاء العجز في حال تم استبدال نظام الرعاية الصحية الذي يعاني من عيوب ويديره القطاع الخاص، بآخر شبيه بأنظمة المجتمعات الصناعية الأخرى يتطلب نصف التكاليف المترتبة على الفرد الواحد ويعطي نتائج صحية مماثلة أو أفضل.
إن المؤسسات المالية وكبرى شركات الأدوية قوية إلى درجة يتعذر حتى النظر في هذه الخيارات، على الرغم من أن الفكرة بالكاد تبدو غير قابلة للتطبيق. وخارج جدول الأعمال كذلك الأمر، ولأسباب مماثلة، ثمة خيارات أخرى دقيقة من الناحية الاقتصادية، على غرار ضريبة منخفضة على المعاملات المالية.
وفي غضون ذلك، تُبدَّد هدايا جديدة بانتظام في "وول ستريت". لقد خفضت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأميركي ميزانية "لجنة الأوراق المالية والبورصات"(ساك) في الولايات المتحدة، وهي الرادع الأول أمام عمليات الاحتيال المالي. كما من المستبعد أن تخرج "وكالة حماية المستهلك" سليمة. ويحارب الكونجرس في معركته ضد أجيال المستقبل بأسلحة أخرى. فقد أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" أن أحد المرافق الرئيسية في الولايات المتحدة "أميركان إلكتريك باور"، ولدى مواجهته معارضة "الجمهوريين" لحماية بيئية، وضع جانباً "الجهود الأبرز التي تبذلها البلاد لتجميع ثاني أكسيد الكربون من محطة لتوليد التيار الكهربائي تعمل على الفحم الحجري، موجهاً صفعة قوية لجهود الحدّ من الانبعاثات المسؤولة عن الاحترار العالمي". إلا أن الضربات التي تسدِّدها الولايات المتحدة لنفسها ليست بالابتكار الحديث، بل هي تعود إلى السبعينيات، حين خضع الاقتصاد السياسي الوطني لتحولات ضخمة، أنهت ما أُطلق عليه عموماً تسمية "العصر الذهبي" لرأسمالية (الدولة).
وثمة عنصران رئيسيان تمثلا بمفهوم التحويل إلى أدوات مالية (أي انتقال أفضلية المستثمرين من الإنتاج الصناعي نحو ما عُرف بمصطلح "فاير"، وهو اختصار الأحرف الأولى في الإنجليزية من كلمات التمويل والتأمين والعقارات)، وأيضاً بمفهوم نقل الأنشطة الإنتاجية إلى خارج البلاد. أما الانتصار الأيديولوجي، الذي أحرزته "عقائد السوق الحرة"، الانتقائية جداً كما يحدث دائماً، فقد وجهت صفعات إضافية بعدما انعكست تحرّراً من القوانين والأنظمة، وقواعد حوكمة شركات تربط مكافآت الرؤساء التنفيذيين الضخمة بالأرباح المحقَّقة على المدى القصير، وقرارات مماثلة أخرى.
 وقد منح تركيز الثروات الناجم عن هذه الأساليب نفوذاً سياسياً أكبر، أدى إلى تسريع حلقة مفرغة نشأت عنها ثروات استثنائية لجزء بسيط يشكل 1 في المئة من السكان، شمل في الدرجة الأولى رؤساء كبرى الشركات ومدراء صناديق تحوُّط وأمثالهم، بينما شهدت عملياً المداخيل الحقيقية للأكثرية الساحقة من الشعب ركوداً. وفي موازاة ذلك، قفزت تكاليف الانتخابات إلى مستويات قياسية، أرغمت الحزبين على التوغل في أعماق جيوب الشركات. وتم نسف ما بقي من الديمقراطية السياسية أكثر من أي وقت مضى بعدما لجأ الحزبان إلى مزايدة مراكز القيادة في الكونجرس، كما يوضحها خبير الاقتصاد السياسي "توماس فرجوسان" في صحيفة "فاينانشال تايمز".
يشرح "فرجوسان" أن "الحزبين السياسيين الرئيسيين استعارا ممارسة معتمدة في سلسلة المتاجر الضخمة مثل "وول مارت" و"باست باي" و "تارجيت" ينفرد حزبا الكونجرس الأميركي بين الهيئات التشريعية في دول العالم المتقدم، حالياً بتحديد أسعار لمناصب رئيسية في عملية سنّ القوانين". إن المشرعين الذين يساهمون بأكبر مبالغ مالية للحزب ينالون هذه المراكز.
والنتيجة بحسب "فرجوسان" تكمن في أن المناقشات الدائرة "ترتكز إلى حدٍ كبير على تكرار دائم لحفنة من الشعارات، التي خضعت لاختبارات في المعارك الانتخابية وبرهنت عن جاذبيتها لكتل المستثمرين الوطنية ومجموعات الاهتمامات التي تستند إليها القيادة لنيل مواردها". أما البلاد، فلتذهب إلى الجحيم. قبل الانهيار في عام 2007 الذي كان الحزبان سبباً وراء حدوثه إلى حدٍ كبير، اكتسبت المؤسسات المالية الجديدة، التي تلت "العصر الذهبي" نفوذاً اقتصادياً مذهلاً، فزادت حصتها من أرباح الشركات بواقع أكثر من ثلاثة أضعاف. وبعد الانهيار، شرع عدد من خبراء الاقتصاد في التحقيق بوظيفتها من الناحية الاقتصادية البحتة. ويستنتج "روبرت سول" الحائز على جائزة "نوبل" أن آثارها العامة قد تكون سلبية: "قد تضيف النجاحات شيئاً بسيطاً أو لا شيء على فعالية الاقتصاد الحقيقي، فيما أن الكوارث تنقل الثروات من دافعي الضرائب إلى كبار المتموِّلين". ومن خلال تمزيق بقايا الديمقراطية السياسية إرباً، ترسي المؤسسات المالية أسس المضي قدماً في العملية التخريبية والتدميرية، طالما أن ضحاياها مستعدون للمعاناة في صمت دائم.


من هو  نعوم تشومسكي
أفرام نعوم تشومسكي (Avram Noam Chomsky) (مولود في 7 ديسمبر 1928 فيلادلفيا، بنسلفانيا) هو أستاذ لسانيات وفيلسوف أمريكي  إضافة إلى أنه عالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. وهو أستاذ لسانيات فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي عمل فيها لأكثر من 50 عام إضافة إلى عمله في مجال اللسانيات فقد كتب تشومسكي عن الحروب والسياسة ووسائل الإعلام وهو مؤلف لأكثر من 100 كتاب. وفقاً لقائمة الإحالات في الفن والعلوم الإنسانية عام 1992 فإنه قد تم الاستشهاد بتشومسكي كمرجع أكثر من أي عالم حي خلال الفترة من 1980 حتى 1992، كما صُنف بالمرتبة الثامنة لأكثر المراجع التي يتم الاستشهاد بها على الإطلاق في قائمة تضم الإنجيل وكارل ماركس وغيرهم . وقد وُصف تشومسكي بالشخصية الثقافية البارزة، حيث صُوت له كـ "أبرز مثقفي العالم" في استطلاع للرأي عام 2005.
ويوصف تشومسكي أيضاً بأنه "أب علم اللسانيات الحديث"  كما يُعد شخصية رئيسية في الفلسفة التحليلية. أثر عمله على مجالات عديدة كعلوم الحاسب والرياضيات وعلم النفس. كما يعود إليه تأسيس نظرية النحو التوليدي، والتي كثيراً ما تعتبر أهم إسهام في مجال اللسانيات النظرية في القرن العشرين. ويعود إليه كذلك فضل تأسيس ما أصبح يُعرف بـ "تراتب تشومسكي" ونظرية النحو الكلي ونظرية تشومسكي-شوتزنبرقر.
وبعد نشر كتابه الأول في اللسانيات أصبح تشومسكي ناقد بارز في الحرب الفيتنامية ومنذ ذلك الوقت استمر في نشر كتبه النقدية في السياسة. اشتهر بنقده للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ورأسمالية الدولة  ووسائل الإعلام الإخبارية العامة. وقد شمل كتاب "صناعة الإذعان :الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية" (1988) على انتقاداته لوسائل الإعلام، والذي تشارك في كتابته مع إدوارد هيرمان وهو عبارة عن تحليل يبلور نظرية لنموذج البروباغندا لدراسة وسائل الإعلام. ويصف تشومسكي آراءه بأنها "تقليدية أناركية إلى حد ما تعود أصولها لعصر التنوير والليبرالية الكلاسيكية" بعض الأحيان يتم تعريفه مع النقابية الأناركية والاشتراكية التحررية. كما يُعتبر كذلك منظراً رئيسياً للجناح اليساري في السياسة الأمريكية.

ليست هناك تعليقات: