فرضت وسائل التواصل الاجتماعي نفسها على التطورات السياسية في العالم العربي وفي العالم، فالربيع العربي كان، بشكل ما، نتاجاً لحراك اجتماعي وسياسي على السوشال ميديا، كما أن تنظيم داعش ازدادت قوته بفضل وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في بث أفكاره واستقطاب مؤيدين جدد له من مختلف أنحاء العالم.
"لقد فشلت إسرائيل في توقع سقوط نظام مبارك في مصر"، قال السفير الإسرائيلي الأسبق لدى القاهرة، إسحق ليفانون، وكان ذلك تلميحاً إلى أن الاستخبارات الإسرائيلية الميدانية التي تغاضت في ذلك الوقت عن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي، لم تستطع تقديم تصور كامل لمنظومة الأجهزة الأمنية والسياسية الإسرائيلية عن الوضع في مصر ومآلاته.
وتعليقاً على ذلك، تقول دراسة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أعدها ضابط في شعبة الاستخبارات العسكرية، إن الربيع العربي والفشل الإسرائيلي في توقع سقوط نظام مبارك هما اللذان لفتا أنظار الموساد إلى كنوز المعلومات التي يمكن استقاؤها من وسائل التواصل الاجتماعي، سواء في ما يتعلق برصد التيارات الفكرية والسياسية العميقة في الدول العربية، أو من خلال التنبؤ باعتداءات قد تحدث في المستقبل القريب أو البعيد، أو حتى معرفة مناطق تمركز الفصائل المتناحرة في البلاد التي تشهد حروباً أهلية مثل الحالة السورية.
كيف تستفيد الاستخبارات الإسرائيلية من السوشال ميديا؟
تقول القناة الثانية الإسرائيلية في تقرير لها عن هذا النوع من الاستخبارات، إن جمع المعلومات من مواقع التواصل الاجتماعي يطلق عليه "أوسينت" والكلمة اختصار لعبارة "Open Source Intelligence"، أي المصادر الاستخباراتية المفتوحة، وتقوم به وحدة في الاستخبارات الإسرائيلية يطلق عليها اسم وحدة "العنصل".
تقوم هذه الوحدة بجمع المعلومات عن أنشطة تنظيم داعش في سوريا، ونوايا حركة حماس في الأراضي المحتلة، ولا يمكن تصور حجم المادة الاستخباراتية التي يتم الحصول عليها من صور السيلفي والتعليقات والتدوينات على فيسبوك وتويتر.
يقول قائد الوحدة إن ما يُجمع من معلومات، سواء الصور أو البوستات أو مقاطع الفيديو، يتم تحليله ثم يُوضع ما جرى التوصل إليه أمام الجهات المختصة، ابتداء من الجندي الموجود على الأرض، إذا كان في حاجة إليها، وصولاً إلى رئاسة الأركان ورئيس الوزراء.
ويضيف أنه بعيداً عن فشل الإسرائيليين في توقع ثورات الربيع العربي، وهو ما أحدث تحولاً جذرياً في الاهتمام بمعلومات المصادر المفتوحة، فإنه تم تحقيق الكثير من الانجازات، التي كانت سبباً في تحقيق مكاسب عسكرية ومعنوية لإسرائيل.
الحالة الفلسطينية
ويوضح أحد عناصر المجموعة في التقرير، أنه بعد اغتيال القيادي في حركة حماس، أحمد الجعبري، عام 2012، بدأت تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي صور لجثته، وتم رصد هذه الصور من قبل الوحدة، ونقلها إلى الجهات المختصة، ولولاها لاحتاج الأمر إلى جهود مضنية لتأكيد نبأ مقتله ونجاح الغارة الإسرائيلية في تصفيته.
ويروي العنصر حادثة أخرى تتعلق باغتيال القيادي في حركة حماس، محمد طلعت الغول، الذي تصفه إسرائيل بأنه كان وزير مالية حماس، ويقول إنه بعد تنفيذ الغارة التي استهدفت الغول، نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر تطاير الكثير من أوراق الدولارات في الهواء، فالتقطت الوحدة هذه الفيديوهات وقامت بتحليلها.
كان تطاير الأوراق النقدية بهذا الشكل في الهواء يشير إلى أن الغول كان يتجول وبحوزته كميات كبيرة من المال، وعلى الفور تم نقل هذا الفيديو إلى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي استطاع عمل بروباغندا إعلامية مفادها أن شعب غزة يموت جوعاً وقادته يتجولون ومعهم كميات كبيرة من المال.
أقوال جاهزة
كل صورة ومقطع فيديو ينشرهما حزب الله على السوشال ميديا من سوريا، تحللهما إسرائيل لتكشف أساليب الحزب
الإستخبارات الإسرائيلية تحلل كل ما ننشره على وسائل التواصل الاجتماعي ولا تعجز إلا عن فهم البوستات الساخرة
صالح العاروري، القيادي في حركة حماس، كانت له تجربة أيضاً مع تلك الوحدة الإسرائيلية. فبحسب القناة الإسرائيلية، كانت تل أبيب تعرف أن حماس هي المسؤولة عن اختطاف الإسرائيليين الثلاثة الذين شنت إسرائيل بسببهم عملية الجرف الصامد (العصف المأكول) على قطاع غزة في 2014، لكنها كانت تحتاج إلى دليل واعتراف رسمي من الحركة، وهو ما عثر عليه أعضاء الوحدة في مؤتمر كان يتحدث فيه العاروري بتركيا، إذ تم نشر مقاطع فيديو من المؤتمر، وبتحليله، اعترف العاروري بمسؤولية الحركة عن اختطاف الثلاثة.
لا تتوقف الاستفادة الاستخباراتية الإسرائيلية عند تأكيد إصابة الأهداف المحددة عبر ضربات جوية، بل يمتد الأمر إلى أن تصبح البيانات التي يتم جمعها من السوشال ميديا هي الأساس الذي يجري بناءً عليه اعتقال شباب وناشطين فلسطينيين بالاستناد إلى منشورات كتبوها، أو اعتقال أشخاص ينفذون عمليات ضد الجنود بناء على صور أو مقاطع فيديو يتم إرسالها مباشرة إلى أقرب قوة برية من موقع الحادث.
الحالة السورية
"إن الثورة السورية وثورات الربيع العربي في تونس ومصر حوّلت الإنترنت إلى ساحة لتشكيل السياسات الخارجية بشكل لم يسبق له مثيل. والهوية الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط لا تتم بلورتها اليوم من داخل مكاتب كبار مسؤولي المنظومة السياسية أو العسكرية، بل عن طريق فيسبوك بواسطة المواطنين الثوريين والنشطاء الاجتماعيين". هكذا وصفت صحيفة "ذا ماركر" الإسرائيلية دور السوشال ميديا والفرص الاستخباراتية الكامنة فيها، والتي يمكن للموساد الاستفادة منها في رسم صورة تقديرية للأوضاع في الدول العربية.
وتضيف القناة الثانية الإسرائيلية أن استخبارات الـ"أوسينت" تقوم أيضاً بجمع معلومات مهمة للغاية حول حزب الله والقوى المتقاتلة في سوريا، وتوضح أن كل صورة وكل مقطع فيديو يقوم حزب الله بنشره على وسائل التواصل الاجتماعي لمعاركه في سوريا، يتم تحليله بشكل دقيق ومن خلاله يمكن التوصل إلى نوعية الأسلحة التي يمتلكها حزب الله في الحرب، وكيفية استخدامه هذه الأسلحة.
جمع المعلومات من مواقع التواصل الاجتماعي يطلق عليه "أوسينت" والكلمة اختصار لعبارة Open Source Intelligence، وتقوم به وحدة في الاستخبارات الإسرائيلية اسمها "العنصل"
ما في ما يتعلق بالجيش السوري النظامي، أو تنظيم داعش، فيقول مسؤول في وحدة "حتساف" (العنصل) إنه كلما ازدادت كميات المنشورات والصور على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا يعني زيادة كميات المعلومات التي يُحصل عليها مثل أماكن تمركز القوات المتحاربة.
ويتم تحديد مواقع المجموعات بدقة كبيرة من خلال معالجة الصور وما تحتويه من طبيعة جغرافية بواسطة تطبيقات مثل غوغل إيرث، أو خرائط غوغل، بالإضافة إلى برمجيات أخرى مخصصة للاستخبارات الإسرائيلية، بحسب ما ذكرت صحيفة "ذا ماركر".
ويشرح رقيب من العاملين بالاستخبارات العسكرية لصحيفة "معاريف" أنه توجد في سوريا أماكن لم يسمع عنها أحد، وعندما يريد أحد معرفة ماذا يدور في تلك الأماكن بالضبط، ما عليه سوى البحث في فيسبوك وتويتر عن أشخاص يسكنون في تلك المناطق، ومتابعة ما ينشرونه حتى يمكن التعرف على ما يجري سواء من خلال المنشورات أو الصور أو الفيديوهات التي يتم نشرها.
آليات جمع المعلومات
وتشير الدراسة الصادرة عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى أن جمع المعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي يتم عن طريق برمجيات تعمل وفق خوارزميات ترصد كل ما يتعلق بكلمات يتم تحديدها سلفاً من قبل عناصر الوحدة المكلفة بجمع المعلومات مثل جهاد وعملية وهجوم، إلخ. وبعدها تخضع هذه البيانات لعمليات تحليل كمي ثم تقارن بما هو متوافر لدى الأجهزة الأمنية من معلومات عن الدولة أو المنطقة محل المراقبة.
وأخيراً، أعلن الموساد الإسرائيلي أنه سوف يستثمر في شركات خاصة ببرمجيات الهاي تك، وهي الشركات التي تقوم بجمع المعلومات من السوشال ميديا وتقديمها للعملاء سواء كانوا أنظمة سياسية أو شركات أو أجهزة أمنية، مع اشتراط عدم نشر أيّة أسماء أو بيانات للشركات التي سوف يستثمر فيها، بحسب ما ذكرت صحيفة "كلكليست" الإسرائيلية.
على سوشال ميديا، إسرائيليون يتقنون اللهجات الخاصة ويجمعون المعلومات عن مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسعودية
كما يتم إعداد الجنود أو الموظفين المدنيين العاملين في مجال جمع المعلومات من وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يؤهلهم لئلا يكونوا موضع شك من أحد، ويتم ذلك من خلال إتقانهم الممتاز للغة الدولة الهدف.
فمثلاً، هناك أقسام مخصصة للعراق ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسعودية وغيرها، مع اشتراط أن يتمكن العنصر من السيطرة التامة على اللغة الدارجة في تلك البلاد، بل إتقان اللهجات الخاصة بكل منطقة من المناطق، بحسب صحيفة "ذا ماركر".
ويتخذ العاملون في الوحدة الخاصة بجمع المعلومات تدابير صارمة من أجل ضمان عدم كشف هويتهم، فيقول أحد العاملين لصحيفة "ذا ماركر" إنهم دائماً ما يستخدمون أسماء مستعارة، بينما لا تحتوي حساباتهم على تويتر وفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي على أيّة معلومات عن مكان إقامة هذه العناصر.
ويقومون بضبط الحسابات الخاصة بهم بحيث لا تظهر منشوراتهم التي يكتبونها ويتفاعلون بها مع الجمهور العربي، المناطق حيث يقيمون. كما يتجنب هؤلاء الأشخاص تشغيل خدمات الجي بي أس وغيرها من الخصائص التي يمكن من خلالها تحديد موقعهم.
ويؤكد مسؤولون في الاستخبارات الإسرائيلية أن المعضلة الحقيقية التي تواجههم حتى اليوم، ولم يتمكنوا من إيجاد حل لها هي مشكلة البوستات الساخرة، أو البوستات التي أحياناً ما تكون دعابة بين مستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق