كتبت الإعلامية
و الفنانة التشكيلية المصرية ياسمين الخطيب علي صفحتها الشخصية علي موقع التواصل الاجتماعي
تويتر : أول قصة قصيرة من مجموعتي القصصية الأولى (تحت الطبع). أرجو أن يحرص على قراءتها،
أولئك الذين حرصوا على مشاهدة صوري .
القصة القصيرة
لي عمات
كثيرات، ولكن عمتي الكبرى "نازك" استأثرت بقلبي، حتى لم يعد لعمة فيه غيرها
موضع. ربما لأنني أشبهها في عصبيتها وعنادها، إذ كانت أمي تداعبها بقولها: "لسانها
طويل ومقاوحة وعندية.. كلها عمتها". كان شعرها الفضي المصفف على طريقة الملكة
إليزابيث أكثر ما يميزها، لم تصبغه أبدا، ولم ترتد الحجاب في أواخر أيام عمرها، أو
تتحايل به على أرستقراطيتها وترتدي ما يسمى بالـ"توربون" كما فعلت بعض هوانم
العائلة، بعدما أفسد الدعاة الجدد عقولهن. كانت تسكن الطابق الخامس من المنزل الذي
يضم الأسرة، وكان بيتها لي ملاذا وجنة. لم تكن حريصة على إغلاق النوافذ خوفا من الأتربة
والحشرات، كما تفعل أمي، فنوافذها دائما مفتوحة على عوالم مدهشة، يحملني إليها الهواء
البحري القادم من شرفتها المطلة من علو شاهق على الشارع العمومي، حيث أستطيع أن أراقب
السيارات والمارة، وأنا جالسة على سريرها أستمتع بوجبة الشعرية التي تعدها لي بالسكر
واللبن والمحبة الخالصة، بينما تجلس هي إلى جانبي تبوح بالأسرار والحكايا. أحيانا كانت
تأتي بصندوق الصور الضخم، وتسألني عن أسماء الأشخاص فأُخطئها، لتغيُّر الملامح بفعل
الزمن، أو بفعل الموضة. وكانت تضحكني إلى حد البكاء، الصور التي التُقطت في حقبة السبعينيات،
حيث حولت (البواريك) و(السوالف) كل أفراد العائلة إلى مُهرجين يشبهون أبطال أوبريت
الليلة الكبيرة. أما الصور التي تعود إلى ما قبل السبعينيات، فما زلت أجهل لماذا كانت
تصيبني بهذا الشجن العميق، خاصة تلك التي كانت تحمل إهداءات شخصية. أتذكر جيدا هذه
الكلمات على صورة لسيدة فاتنة بصحبة شاب وسيم، يرتديان ملابس شتوية أنيقة، بمدينة يبدو
أنها أوروبية: "عزيزتي نازك.. أهدي إليكِ صورتي أنا وحسين من على ضفاف نهر الرون..
جنيف رائعة.. نفتقدك جدا.. قبلاتي.. نبيلة". لا أعرف ما آلت إليه قصة نبيلة وحسين،
ولم أسأل عمتي، ربما توجسا من أن تغير إجابتها النهاية المأساوية التي اختارها لهما
خيالي.. لقد انتحرت نبيلة.. لا أعرف لماذا.. هو كده.. لم تكن حكايا عمتي "نازك"
أسطورية ومكررة مثل حواديت جدتي، عن الثعلب المكار والبطات الثلاث والمارد الأخضر.
ولكنها كانت حكايا من الواقع، مغلفة بسحر أسطوري.. وأحبها إلى قلبي، وقلبها أيضا، قصة
حبها للشاب الأسواني صاحب العيون الخضراء.. والذي أعلم أن عيونه الملونة كانت أول ما
لفت نظرها إليه، رغم أنها لم تبح بذلك أبدا، إلا أنها كانت تصمت أحيانا للحظات، ثم
تستأنف الحكي بعدما تقول باسمة: "تصوري كان أسواني أسمر وعيونه خضراااا"
وتمد الألف. تعرفت عمتي عليه في الصالون الأدبي الذي كان يقيمه جدي شهريا بمنزله، وفي
صباح اليوم التالي، دخلت حجرة المكتب لتخبر والدها أنها سوف تستطحب السائق ليوصلها
إلى "شيكوريل" لشراء بعض الأقمشة ثم تذهب إلى الترزي، ففوجئت بوجوده. ولما
أعطاها جدي مبلغا من المال لشراء القماش، نظر الشاب الأسمراني بعينيه اللتين يدري بسحرهما،
إلى ساقي "نازك" اللتين تبارزهما فتنة، ثم أخرج من محفظته خمسة جنيهات حتة
واحدة، وقال لجدي مستأذنا: "ممكن أديها دول من عندي عشان تشتري متر زيادة وتطول
الفستان شوية؟" بعد أيام خطبها منه. لم توافق جدتي أن تكون ابنتها زوجة ثانية،
وحسم جدي الموقف بإرجاع القرار لقلب ابنته وكفى، فتمت الخطوبة. وعندما تستمع إلى حكايا
عمتي "نازك" عن فترة خطوبتها، ستتمنى أن تحتويك بلورة الزمن لتعود بك إلى
فترة الستينيات، حيث يكون الحوار بين الأحبة كالتالي:
- سعيدة
يا نازك هانم - سعيدة مبارك - عديت قدام السرايا بالأوتوموبيل ولاحظت أن نور أوضتك
مضلم من بدري.. خير! - أنا صحتي بطالة اليومين دول يا بكر أفندي - ألف لا بأس عليكي
يا حبيبتي.. نروح للحكيم؟ - ممنونالك - على أي حال أنا حجزت تذكرتين لحفلة الست.. وأثق
بأن صوتها هايحسن مزاجك. هذا الأسلوب الراقي الذي يبدو الآن كوميديا، شكل بوجداني النموذج
الأمثل للعلاقة الرومانسية، وأورثني نفورا شديدا من المصطلحات المستحدثة التي يستخدمها
أبناء جيلي، ولا أعلم إن كانت النوستالجيا هي السبب، أم أننا ابتذلنا بالفعل كل شيء
حتى الرومانسية! ترى.. هل سيتحسر أبناؤنا في شيخوختهم على زمن الحب الجميل، عندما كان
الحبيب يتصل بـ"مُزّتِه" ليمسي على فخادها، ويخبرها بأنه "بيحبها فشخ"
ثم يذهبان معًا للتنطيط في حفل الأستاذ "تامر حسني" والست "هيفاء وهبي"
وتخلص الليلة بشياكة؟! لا أعتقد. ولكن دعونا الآن من "تامر حسني"، ولنركز
مع "عبد المطلب" الذي لعب دورا لا يستهان به في هذه العلاقة دون أن يدري.
بعد مرور عام على الخطوبة، خاض خلاله الحبيبان بحورا وقف العشاق بسواحلها، تشاجرا لسبب
تافه لا أتذكره، يخص زوجته الأولى. ولأن ذا العيون الخضراء كان صعيديا دماغه أصلب من
الصوان، ولأن عمتي كانت أعند من ثور بلجيكي، لم تفلح كل محاولات الأصدقاء لتقريب وجهات
النظر. والعناد أقسى من الكراهية، فقد يتحول العدو يوما إلى حبيب، أما العاشق العنيد
فلا يعود أبدا إذا أخلص للفراق.. لذا كان الفراق. بعد أيام التقى الحبيبان صدفة في
حفل ببيت أحد الأصدقاء، فاقترح عليهما أن يفتحا الراديو، ليحدد القدر مصيرهما من خلال
الأغنية المذاعة، فوافقا.. وإذا بصوت "عبد المطلب" يعلن نهاية عصر من العشق
الكبير: "ودع هواك وانساه وانساني.. عمر اللي فات ما هايرجع تاني" غادرت
"نازك" مع السائق، وتبعها ذو العيون الخضراء إلى منزلها، استقبله والدها
في مكتبه، وقدم له صندوقا خشبيا، بداخله مبلغ يعادل ثمن الشبكة، وقال له معتذرا:
"آسف.. ماقدرش أخلع الأسورة الألماس من إيد بنتي"، رفض بشدة، فأصر جدي..
في صباح اليوم التالي، قال لها البواب متعاطفا متحسرا: "هو إيه اللي حصل يا ست
نازك! الجدع خرج إمبارح من عند الباشا وجه قعد جنبي على الدكة.. مانطقش ولا كلمة..
وبكى زي النسوان". كان يحلو لعمتي أن تكرر المشهد الأخير، بنبرة مفاخرة توثق انتصارها،
لكن نبرتها لم تكن تخلو من شجن يؤكد أن لا أحد ينتصر في معارك الحب.. فكلاهما انهزم
بخسارة الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق