الثلاثاء، 26 يناير 2016

قصة قصيرة الكتابة على ضفاف الأنهار للروائية عفيفة سعودي سميطي


- سيّدتي..
و التفتتْ نحوه مندهشة...في حين كانت أناملها لا تزال تقبض على قطعة الطّبشور..
- هلّا نَزَلْتِ من فوق الخشبِ...؟
و نظرتْ إلى الأسفل... حيث المصطبة... و واصل...و عيناه الصغيرتان تتابعانها بحزن...في حين كانت العيون الصغيرة تُحدّق فيه بفضول...
- قدماك يا سيّدتي ... لم تُخْلَقا إلّا للعشب...
 ثمّ أضاف...
- رموشك... شعرك ...و وجهك...و ميدعتك...و حذاءك...و ... ونحن...
و غرق في الضّحك...حتى دمعت عيناه...و هتف و أنامله تعترض دموعه....
- نبدو كفئران ... ذُرَّ عليها الطّحين...
و انفجر الأطفال ضاحكين... في حين ظلّت هي تنظر إليه صامتة... ما الذي فكّ عزلته ...؟ منذ شهر دخل في عزلة و عزف عن الكلام...
و ظلّت عيناه فقط ...سفيرا اليها... كم عذّبها ذلك...و كم ظلّت تجتهد في الابتسام حتّى لا تدمع عيناها أمام صمته العصيّ... فقد كان صوته كل الشّمس...و أتاها صوته من جديد...
- كم أتمنّى يا سيّدتي ... أن أظلّ أسمعك... و أتأمّلك...و أن نُقْلِع إلى الأبد ... عن الكتابة فوق الخشب...
الهباءات البيضاء تسبح كثيفة ...و تكسو الرؤوس و الرّموش و الميادع و الأحراف و المكتب و المقاعد و تمضي الى كل الفجوات المفتوحة...
حتى تستقرّ في الرّئى... و يحتدّ السّعال كلّما أمعنت الطلاّسات في َهوْس المَحْوِ...و هتف من جديد... و عيناه تبرقان...
- كل الأفكار التي كتبناها ... يصحبها ركام من الجبس...
و عطس ...ثم سعل...و هرش أنفه مرارا و تكرارا...ثم أردف ...
- لذلك...عندما نكبر... فسنكون عاجزين عن التنفّس...
و نظرت إلى قطعة الطّبشور الرّابضة بين إبهامها و سبّابتها.. و إلى الجلد الميت الذي تُغرقه كلّ ليلة في الليمون... ثمّ في " الڤازلين "... و إلى المناديل الورقيّة التي لم تعد تفارقها...و إلى بخّاخة الرّبو التي أصبحت تلازمها... و إلى المربّع الغائم... و إلى العيون الصغيرة المحدّقة بها... و التي حفظت كل اختلاجاتها... حتى أنّها لم تضطرّ يوما إلى استدعاء أب أو أمّ....و جذبت نفسا عميقا لا شذى فيه... عدا رائحة الجبس... ثمّ هتفت بصوت هادئ...و عميق...
- ألْقُوا بكلّ أصابع الجبس في سلّة المهملات....
و كعادة الأطفال عند انطلاقهم من حصار الخشب...نطّوا كالقطط...و ارتفعت ضحكاتهم و صيحاتهم...و تراكضوا متدافعين نحو ركن في القسم... لم تكن هناك سلّة مهملات...فقد أخذها الحارس وعاء لكلبه... و تظاهر كثيرا بالبحث عنها...حتى كفّ عنها الطّلب...و تراكمت أصابع الطّباشير في ذاك الركن.... و امتدّت أناملها إلى أزرار ميدعتها تفكّها...ثم نظرت الى السبّورة الخشبية التي بدت كتاريخ ميّت... لا شيء يظهر على وجهها...سوى البياض الشاحب ... و هتفت في سرّها ..." كان يمكن أن تكوني غصنا مورقا ... في حديقة ما... لو لَمْ تُحَوَّلي إلى سبّورة..." ...ثم نزعت ميدعتها و التفتت إليه ... كان يضحك... و لم يكن في الزّحام ...فقد رفض منذ شهر أن يكتب بالجبس...و هتف بها...
- سيّدتي... أتدرين أن كلّ صمتي لم يكن سوى حزن عليك ...
و ظلت تنظر إليه غائمة...و واصل و عيناه تبرقان...
- كنتِ كلّ يوم تمضغين الخشب ... و مع ذلك لم تُمَرّري لنا يوما طعمه... فقط...طعمُكِ أنتِ الذي مرّ...
و اغرورقت عيناها بالدموع.... كان مثلها... يحفظ كلٌ شيء فيها...
كان الأطفال لا يزالون يتدافعون في الركن...و ضحكاتهم تعلو في القسم و تُحدث هرجا... و هتف بهابصوت ممتلئ..
- أعرف أنّ قدميك تتوقان للشّمس...
و ضحكت....
ذاك اليوم غادرت المربّع... و لم تكن وحدها...كانوا معها...خلفها كان المدير يٌبرطم غاضبا... و يُهدّد بكلّ اللّوائح التّربويّة...و نظرت إليه مشفقة...
منذ ذلك اليوم...شرعت تُعلّمهم الكتابة على ضفاف الأنهار...و كان ذلك أخر عهد لها بالرّبو.... و آخر عهد لهم بالسّعال.

ليست هناك تعليقات: