السبت، 19 ديسمبر 2015

عسكرة التعليم في إسرائيل

صدر كتاب “عسكرة التعليم في إسرائيل” في إسرائيل عام 2005، إعداد وتحرير “حجيت جور”، وهي مؤلفة مناهج دراسية وتربية إسرائيلية، متخصصة في التربية النقدية، وقامت بوضع العديد من المناهج الدراسية المعنية بحقوق الإنسان والطفل، وتعليم السلام والمساواة بين الجنسين.
 ولأهمية الكتاب للباحثين والمهتمين بالشأن الإسرائيلي قام بترجمة جزء منه الدكتور “يحيى محمد عبد الله إسماعيل” أستاذ اللغة العبرية وآدابها بكلية الآداب جامعة المنصورة، وصدر عن مركز الدراسات الشرقية التابع لجامعة القاهرة عام 2007.
يضم الكتاب مجموعة من المقالات التي قامت بتدريسها باحثات إسرائيليات متخصصات في التربية والاجتماع، كما أنه يحمل تجارب شخصية لبعضهن، وتقدم فيه الباحثات دراسة اجتماعية ونفسية نقدية لمنظومة التعليم في إسرائيل، خاصة في مراحلها الأولى، ومن عنوانه يتضح أن التعليم في إسرائيل مرتبط بالمنظومة العسكرية ارتباطا وثيقا، وأن العسكرية بمثابة أيديولوجية راسخة في المجتمع الإسرائيلي، والتعليم ركن أساسي من أركانه.
في مقدمة الكتاب تشير المُحررة “حجيت جور” إلى أن المجتمع الإسرائيلي يتسم بمظاهر العسكرة بشكل مكثف، حيث يشغل عسكريون سابقون وظائف عليا في شتى المجالات، ولا يصدر قرار سياسي إلا بعد استشارة عسكريين، في مقابل إقصاء للمدنيين بشكل تام عن التدخل والتأثير في القرار السياسي، حتى الوزراء المدنيين لا يشتركون بفعالية في آليات اتخاذ القرارات السياسية.
والعسكرة في المجتمع الإسرائيلي حاضرة في مجال التعليم كذلك، ولا يقتصر التعليم هنا على مؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وإنما تندرج تحته عمليات تأهيل الفرد اجتماعيا داخل الأسرة، ووسائل الإعلام، ومنتجات ثقافية مختلفة.

ثمة تسليم في إسرائيل بمحورية الحرب والجيش، فترقب الحرب مكون أساسي في الواقع اليهودي في إسرائيل، ويُنظر للحروب على أنها حل لمشاكل سياسية، ومن هنا ترسخ هيئة التعليم في إسرائيل لاعتبار الخدمة العسكرية للفتيان والفتيات على أنها مرحلة طبيعية مرغوبة، ومن الممكن أن ترى أطفالا في مرحلة الحضانة يزورون معارض للجيش الإسرائيلي، وضباطا مدعوون للمداس لإلقاء محاضرات، وطلابا في المرحلة الثانوية مدعوون لمشاهدة تدريبات عسكرية، وزيارة معسكرات للجيش.
يهيئ التعليم الإسرائيلي البنين والبنات لأن يعتبروا الجيش مرحلة طبيعية في حياتهم، ويعلمهم أن التفكير العسكري له أهمية كبيرة، فهو ينمي التقدير والتبجيل تجاه الجيش، ويشيع فكرة أن الشاب الذي خدم ثلاث سنوات في الجيش يصبح ناضجا، وصاحب مبادرة وقدرة على الزعامة وتحمُل الصعاب. (خدمة التجنيد الإجباري في إسرائيل بعد مرحلة الثانوية العامة التي تسمى “البجروت” أي قبل الدراسة الجامعية للشاب والفتاة).
وترى “حجيت جور” أن التعليم في إسرائيل يرسخ لرؤية العالم عبر مصطلحات قاطعة بداية من مرحلة الروضة، من خلال التركيز على متناقضات الخير والشر، النهر والليل، القوي والضعيف، نحن (اليهود والإسرائيلييون) وهم (غير اليهود).
وبعد اتفاق “أوسلو” تم تدريس السلام في معظم المدارس الإسرائيلية، لكن اتضح أنه منهج صوري لا يتعدى صورة الحمائم البيضاء وأغصان الزيتون، فالحقيقة أنه تم تدريس السلام بمعزل عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ومع تجاهل الثقافة الفلسطينية، واللغة، وحقوق الإنسان، والتباين بين الجماعات في إسرائيل، والعدل الاجتماعي، ولم يغير الاهتمام بالسلام من تدريس الرسائل المتعسكرة التي تبرر القوة والحرب والاقتتال.
“روتي قنطور” مصممة رسوم بيانية إسرائيلية، وتعمل في تطوير الأدوات المساعدة في شئون التدريس تتحدث في مقال لها بالكتاب عن الثقافة البصرية المتعسكرة داخل المجتمع الإسرائيلي، فالبيئة البصرية تخلق مجالا شديد التأثير على الأفراد، ومن هنا جاء التركيز على عسكرة المناخ البصري في إسرائيل، فمن المألوف رؤية جنود بزي عسكري في وسائل المواصلات، وتحمل كثير من لافتات الشوارع والمواقع والمباني العامة أسماء حروب وأسلحة لجيش إسرائيل وقادة عسكريين وتنظيمات عسكرية يهودية وإسرائيلية، ويلتقي أطفال المدارس يوميا عند ركن تخليد ذكرى خريجي المدرسة الذين قُتِلوا في حروب، وهذا الركن عبارة عن زاوية رخامية أو معدنية محفور عليها أسماء القتلى وعلم إسرائيل، وتتحول النُصُب التذكارية لقتلى الحروب إلى مزارات أسبوعية، ناهيك عن بطاقات التهنئة والأغلفة المُبهِجة المخصصة للمتجندين الجدد.
وكجزء من برنامج اسمه “جنود ليوم واحد” تُقام رحلات مدرسية إلى قواعد استقبال وفرز الجنود الجدد، ويزور المدرسة عادة جندي بزيه العسكري، أو مدرسة جندية، تكون مهمتهما تقديم استشارة للتلاميذ قبل تجنيدهم.
البيئة البصرية في إسرائيل إذن هي بيئة عسكرية بشكل شبه كامل، فبالإضافة لما سبق، تبرز هيمنة الجيش على الثقافة الإسرائيلية في سياقات كثيرة: إعلانات طعام ووسائل ترفيه وصحة وإعلام، ومنتجات استهلاكية، كل هذا يؤكد هيمنة الفكر العسكري على البيئة الاجتماعية والثقافية والتعليمية في إسرائيل.
مقال بعنوان “جنرالات في التعليم: عسكريون كمديري مدارس” تتحدث فيه الباحثة والأكاديمية بجامعة بن جوريون “هنرين دهان كاليف” عن تغلغل الجيش في هيئة التعليم، حتى منذ قبل قيام إسرائيل، وقيام منظومة الجيش بمهام تعليمية وتربوية فشلت فيها هيئة التعليم، كاستيعاب المهاجرين الجدد، وتبني أطفال ودمجهم في أطر مشاريع خاصة، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل شهدت إسرائيل قيام جنرالات وجنود محترفين بالعمل كمعلمين ومديرين للمدارس بعد إنهائهم خدمتهم العسكرية.
وتعتبر “كليف” في مقالها أن تغلغل العسكريين في مؤسسات التعليم من شأنه أن يؤدي لتشوهات جوهرية في فكر التلاميذ، نظرا لأن التعامل مع مشاكل التعليم بواسطة جنرالات يُنحي جانبا التعامل مع مشاكل التعليم بواسطة قيم التعليم، ويسمح بالهروب إلى حلول بيروقراطية وعبثية لا تتسق مع مبادئ وقيم التعليم.
مقال آخر بعنوان “تدريس سفر يشوع والاحتلال” بقلم “جاليا زلمانسون ليفي” التي عملت مديرة لإدارة التثقيف والنهوض بالشباب في وزارة التعليم، وتعكف على إعداد المناهج الدراسية وتأهيل المعلمين ومربيات الأطفال، وتنتقد في مقالها تدريس سفر “يشوع” تحديدا لتلاميذ الصف الرابع في المدارس الإسرائيلية، وهذا السفر هو سادس أسفار العهد القديم” (كتاب اليهود المقدس)، ويسرد تفاصيل غزو واحتلال القبائل العبرانية الفارة من مصر بقيادة “يشوع بن نون”، خليفة موسى، لأرض فلسطين وإبادة سكانها، ونطق انتقاد الكاتبة لتدريس هذا السفر بالذات أنه يُرسخ في أذهان التلاميذ أن احتلال فلسطين وإبادة شعبها فريضة دينية، وتنتقد الكاتبة أسلوب تدريس السفر، لما يحمله من ربط بين الماضي والحاضر، مع تجاهل تفاصيل وحشية الاحتلال، وتبرير الإبادة، وفي نفس الوقت يربط تدريس السفر بين ما يسمى بالأرض الموعودة وبين إسرائيل الحالية، فتخلص الكاتبة إلى أن تدريس هذا السفر بهذا الشكل وبأسلوب غير نقدي إنما يُكرِس لعدم التسامح تجاه الآخر (العربي) ويُنمي التطرف.
الكاتبة “استر يوجيف” أستاذة التاريخ الأمريكي بجامعة تل أبيب، ومستشارة تربوية للعديد من الكتب التعليمية في تدريس التاريخ والمواطنة، في مقالها “الكتب والمناهج الدراسية التاريخية بين حتمية التراث والتاريخ النقدي” توضح أن المؤسستين السياسية والتعليمية تتمسكان بوجهة نظر أحادية الجانب، ترى أن المهمة الرئيسية للدراسات التاريخية التعليمية وضع التراث والرواية الرسمية في صدارة المشهد، دون حضور للدراسات النقدية التي تطرح رؤى تاريخية أخرى، وعليه فإن الدراسات التاريخية الإسرائيلية في المناهج الدراسية تتجاهل قضايا مثل النزاع اليهودي – العربي، وتهمش الرواية الفلسطينية للأحداث، في مقابل التركيز على الأفكار الصهيونية، وأبرزها إعادة إنتاج شخصية يهودية مغايرة للشخصية الخانعة التي استُذِلت في أوربا، وصياغة وعي اليهود بفلسطين، من خلال ربط بين الماضي والحاضر في المناهج الدراسية في مواد التاريخ والتوراة، وترسيخ فكرة تغلب الأقلية اليهودية على الأغلبية العربية، ورسم سورة نمطية سلبية كالعادة للعربي، غضافة لعدم التطرق لمشاكل جوهرية في تاريخ الصراع، كمشكلة اللاجئين ودور إسرائيل في تضخيمها.
وتشير “حجيت جور” في مقال لها إلى أن الرسائل العسكرية المُبطنة والظاهرة يتم تمريرها إلى أطفال الروضة في إسرائيل، من خلال التركيز على أساطير القوة والبطولة لدى الشخصية اليهودية التاريخية، وتكوين انطباع عاطفي لدى الأطفال أن اليهود مضطهدون من العالم كله، وبناء عليه يتم تقسيم العالم في ذهن الأطفال إلى جماعة الأخيار (اليهود) وجماعة الأشرار (العالم كله)،استنادا للرواية الإسرائيلية للأعياد التاريخية والدينية اليهودية التي يتم تدريسها لأطفال الروضة.
توضح الكاتبات أن العسكر هم المسيطرون على النظام الإداري للتعليم في إسرائيل، وترتبط المناهج التعليمية والرسائل التربوية ارتباطا وثيقا بالعقلية العسكرية المُهيمنة على مجريات الأمور في المجتمع، ومن خلال الدراسة الاجتماعية والنفسية والتربوية لمنظومة التعليم في إسرائيل يتضح أن الطفل ينشأ تربويا ونفسيا وفقا لعقيدة عسكرية تهيئه مستقبلا ليكون عدوانيا تجاه الآخر (العرب)، وتغمض عينيه عن القراءة النقدية للروايات التاريخية المتعلقة بالأرض أو مستقبل النزاع عليها.
فالطفل الإسرائيلي تصوغ وجدانه من بداية التحاقه بالروضة والتعليم الأساسي معارف عسكرية أحادية الجانب، تُنمي فيه مشاعر الكراهية والتعصب ضد الآخر العربي، فينمو متغذيا على أفكار العداء ورفض الآخر، وإنكار حقه في العيش على أرضه.

ليست هناك تعليقات: