الاثنين، 9 نوفمبر 2015

الحرب الباردة ضد الثقافة رباب كمال

من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة ضد الثقافة  Who Paid the Piper?: The Cultural Cold War هو عنوان كتاب صدر في الولايات المتحدة قبل 15 عامًا من تأليف الكاتبة "فرانسيس سوندرز"، وأوردت فيه تاريخ خوض الولايات المتحدة حربًا ضد المثقفين بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف كممت فيها أفواهههم واعتبرت كل معارض لسياسات الولايات المتحدة عميلا شيوعيًا، يريد أن ينال من التراث الأمريكي، ويكدر السلم العام ومنظومة الأخلاق والتدين الأمريكية.

 جورج دونديرو ( 1883-1968) البرلماني الأمريكي، أعلن الحرب على الفنون واعتبر الفن الحديث المتمثل في الفن التعبيري والسريالي والتجريبي وغيره، مؤامرة شيوعية لقهر وطمس وتدمير التراث الأمريكي، وقال عن الفنون الحديثة إنها تمثل الانحطاط والفساد والتدمير. تصاعد الهجوم ضد المثقفين بدعوى أنهم غارقون في الحداثة، وأنهم أدوات في يد أعداء أمريكا. بل وصلت حدة الترويج لنظريات المؤامرة ضد الفنون إلى اتهام اللوحات التجريدية بأنها خرائط سرية، تحدد مواقع الدفاع الاسترتيجية الحصينة للولايات المتحدة! وكانت فترتا الرئيس هاري ترومان ( 1945-1953) والرئيس  دوايت أيزنهاور ( 1953-1961)  من أكثر الفترات التي حوكم فيها المثقفون أمام الرأي العام وفي ساحات المحاكم.
مصادرة الفنون في سبيل الأخلاق والدين في مصر
إذن الرقابة على الفكر والفن والإبداع ليست حكرًا على منطقتنا العربية ولا على زماننا، لطالما تمت مصادرة الفنون على مدار الزمان والمكان. الفارق الوحيد الذي استجد علينا في الألفية الثالثة هو أن بعض البلاد تحررت بشكل نسبيّ أو ملحوظ  من قيود الرقابة المتزمتة، بينما انغمست ثقافات أخرى في المزيد من المصادرات التي تمت باسم الأخلاق والدين بينما كان غرضها سياسيًا بحتًا.
الغرض السياسي لمحاكمات الروائيين والفنانيين لم يكن حكرًا كذلك على الدولة المصرية وأتباعها، بل المعارضة الإسلامية في مصر، كذلك حُركت كثير من هذا الدعاوى بغرض سياسي آخر، وهو الإعلان عن الصحوة الإسلامية في المجتمع والقدرة على إثارة الرأي العام في الشارع، ومن ثم الزحف رويدا رويدا إلى السلطة ومراكز صنع القرار لتعمل لها السلطة ألف حساب، وظهر ذلك في صورة المواءمات السياسية للدولة مع التيار الديني سواء المعارض أو المداهن للسلطة، وهكذا وجد المثقفون والمبدعون أنفسهم بين المطرقة والسندان.
هل الثقافة والإبداع فوق النقد؟
هؤلاء الذين يشنون الحرب الباردة ضد المثقفين سيلجأون دائمًا  لشعار "لا أحد فوق النقد"، وبالتأكيد لا أحد فوق النقد، ولكن هذا ليس مبررا للزج بالمثقفين إلى السجون وجرجرتهم للمحاكمات بتهمة تأليف ديوان شعري أو رواية أو كتابة مقال أدبي، وهي القضية التي أثارها الناقد المصري غالي شكري( 1935-1998)  حين قال نصًا: " ليس هناك شيء في الحياة فوق المساءلة. والثقافة والفكر والمفكرون كأي نشاط وفئات أخرى يخضعون للمساءلة، ولكن المساءلة في الأدب والثقافة لها عنوان محدد وهو النقد وليس المحاكم".
قضية موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب ( نموذجًا )
الحروب الباردة ضد المثقفين والمبدعين في مصر لها تاريخ مديد، بعضها دراميّ أسود  والآخر ساخر لحد البؤس، وعلى سبيل محاكمات المبدعين التي تصل لحد السخرية المؤلمة البائسة، وقف الفنان محمد عبد الوهاب في ساحة القضاء بتهمة ازدراء الدين الإسلامي في أواخر الثمانينيات، وتهمته كانت غناء أغنية "من غير ليه".
حينها لعب صحفي من أصحاب الهوى الإسلامي دور المحتسب ورفع قضية حسبة  في حق عبد الوهاب عام 1989، اتهمه فيها بالكفر والإلحاد، على خلفية تعارض أبيات من الأغنية مع الشريعة الإسلامية وهي الأبيات التي تقول:  "جايين الدنيا ما نعرف ليـــــــــــــه ولا رايحين فين ولا عايزين إيــــه"، ونصت الدعوى على أن تلك الأبيات ازدرت الآية القرآنية رقم 56 في سورة الذاريات "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، وتم الاستناد لرأي لجنة الفتوى بالأزهر الشريف، التي كان يرأسها الشيخ عبدالله المشد حينها، واعتبر في فتواه أن الأغنية بها إساءة للدين وأنها تدخل في دائرة الشرك بالله. ولنزيد الطين بلة، طالب الشيخ صلاح أبو إسماعيل حينها الدولة والقضاء باستتابة موسيقار الأجيال، وأفتى الشيخ عبد الحميد كشك بأن الأغنية تحرض على الكفر.
رفضت المحكمة الدعوى وبرأت محمد عبد الوهاب من تهمة ازدراء الإسلام، ليس بسبب لا معقولية الدعوى أو سخافتها ولكن لأن ضمير المحكمة اطمئن لإيمان المدعي عليه الذي نشأ تنشئة دينية وحفظ فيها آيات من الذكر الحكيم!
وهنا علينا أن نعي جيدًا أن وقوف موسيقار بحجم محمد عبد الوهاب في ساحة المحكمة بتهمة"الغناء"، كان رسالة من المحتسبين الجدد من التيار الإسلامي ورسالتهم الواضحة هي أنه لا يوجد قامات فنية أو فكرية أو ثقافية فوق محاكمات التكفير، والتي شهدت ساحات القضاء المصري سيلا منها على مدار الأعوام اللاحقة، وغالبا ما ارتبطت قضايا مصادرة الفن ومحاكمة المبدعين بمسميات الحفاظ على الهُوية الإسلامية والمنظومة الأخلاقية.
من الذي يدفع للزمار؟  
قضية أحمد ناجي المحرر الصحفي بجريدة أخبار  الأدب لن تكون القضية الأخيرة في سلسلة محاكمات المثقفين والمبدعين، ناجي يمثُل أمام محكمة الجنيات مثله كمثل الإرهابي والتهمة كتابة فصل في رواية. نشرت أخبار الأدب فصلا من رواية ناجي "استخدام الحياة " في شهر أغسطس الماضي، وهي الرواية الصادرة عن دار تنوير.
كان علينا أن نُمعن جيدًا في اتهامات النيابة التي  صرحت بأن "الاتهام ثابت على المتّهمين وكافٍ لتقديمهما إلى المحكمة الجنائية بسبب ما قام به المتهم ونشره مادة كتابية نفث فيها شهوة فانية ولذة زائلة، وأجَّر عقله وقلمه لتوجّه خبيث حمل انتهاكاً لحرمة الآداب العامة وحسن الأخلاق والإغراء بالعهر خروجاً على عاطفة الحياء".
وهنا لنا تساؤل.. ما الذي تلاحقه الدولة المدنية المزعومة تحديدا ؟ هل تلاحق أصحاب القلم أم أصحاب القنابل؟ أصحاب الرويات أم أصحاب السيارات المفخخة؟ كيف يكون أحمد ناجي الذي يمثل أمام محكمة الجنايات خطرًا على المجتمع؟ هل يحرض الناس على القتل والتخريب والدمار مثلا؟ وما الفرق بين نَص اتهام النيابة وبين ما يردده السلفيون والتيارات الداعشية المتزمتة؟ 
صدرت قوانين طائلة وعديدة  من قبل رئاسة الجمهورية، لم يشمل قانون واحد منها حماية المفكرين والمثقفين-   حسب المادة 67 من دستور 2014 -   من اتهامات الحسبة وازدراء الأديان، تارة باسم الدين وتارة باسم الأخلاق. فلماذا يتم التعامل مع القضية على طريقة "ودن من طين وودن من عجين"؟
هل تخشى الدولة غضبة الأزهر من مشروع قانون لحماية المفكرين والمبدعين من المثول أمام محكمة الجنايات؟ هل تخشى غضبة  السلفيين؟ أم تخشى غضبة الوهابية الداعمة لهذا الفكر وكفيلها السعودي؟
الخاتمة:
استخدمت المؤلفة الأمريكية "فرانسيس سوندرز"  تعبيرا اصطلاحيا في عنوان كتابها الذي تناولت فيه الحرب الباردة ضد المثقفين..  ألا وهو "من الذي دفع للزمار؟ و هي كناية عن توجيه الشؤون السياسية في دفة معينة، فمن يدفع للزمار يحق له من تحديد النغمة التي يريد أن يسمعها.
في الحرب الباردة ضد  المثقفين في مصر ...من الذي يدفع للزمار؟ وهل تكمن الإشكالية فيمن يدفع للزمار؟ أم في نغمة المزمار الشاذة؟

ليست هناك تعليقات: