الأحد، 4 يناير 2015

بالصور: بيكاسو المؤنث

لم يجد القائمون على متحف الفنون الجميلة في كمبير، شمال الساحل الغربي لفرنسا، أفضل من عنوان «بيكاسو المؤنث الأبدي» وهم يعرضون مجموعة من المحفورات التي رسمها الفنان الإسباني لنسائه.
 كان قصير القامة، مربوعها، قويا مثل ثور، عاش 91 عاما وتزوج مرتين وأحب 7 نساء معروفات بالاسم وبجانبهن عشرات العابرات المجهولات. هل عشق بيكاسو المرأة لذاتها أم أغواها لكي يرسمها؟
ترك الفنان 50 ألف عمل فني وراءه ومئات الوجوه النسائية. ولا يعرف قارئ سيرته متى كان «الوحش الأندلسي» ينهض عن مسند اللوحات ليرقد في الفراش، ومتى يترك أحضان الحبيبات ليرسم وينحت ويحفر ويخطط ويزجج الخزف. وقد دخلت كثيرات منهن التاريخ بفضل اللوحات التي أنجزها لهن. كان، في نظر التقليديين، فنانا ملعونا يمسخ وجوه النساء ويعبث بها تجريدا وتكعيبا ويضع الأفواه موضع الحواجب ويشتت أماكن العيون، لكن النقاد صاحوا معلنين ولادة فنان عبقري.
سبع نساء مررن في حياة بيكاسو، لونت كل واحدة منهن لوحات بيكاسو بحسنها ورغبة بيكاسو اتجاهها، وهو يكاد يختنق بدونهن:  "المرأة عود ثقاب يشعل رغبتي في الرسم. أريدها دائمة الحضور، متجددة، ونارها لا تنطفئ".
بدأت سلسلة الجميلات مع مادلين التي دخلت عالم بيكاسو مبكراً، فرسمها بيكاسو وكدّس لوحاتها على مدفأة من المعدن المصهور وحوض المغسلة، وقد سميت مرحلة مادلين في مسيرته الفنية وما سبقها بالمرحلة الزرقاء، اللون الذي طغى على لوحاته آنذاك.
وذات يوم هبت عاصفة مطرية، ركضت اثرها إحدى الحسناوات وقد ابتلت ثيابها لتتجنب المطر الغزير، فدفعت بالصدفة بيكاسو الذي كان يلاعب هرّاً له، فانتقلت العاصفة إلى دواخله ولم يخمدها اعتذارها منه، وما كان منه الا أن قدّم لها الهرّ الصغير بضحكة فنية خطفت قلب الصبية التي تدعى فيرناند فضحكت هي الأخرى، ورسم بيكاسو تحت تأثير عشقها سبع سنوات تلونت لوحاته خلالها باللون الوردي العاشق.
لم يدم ذلك العشق طويلاً، فقد هبت عاصفة معاكسة وتمثلت في الانقلاب الفني في مزاج الفنان، فكان أن رسم لوحته الشهيرة "آنسات أفينون" وهنّ مجموعة بنات هوى يقفن بقمصان النوم عند مدخل ماخور، ولم يكن الانقلاب في موضوع اللوحة إنما بالأسلوب الذي عالج به بيكاسو الموضوع.
بعدها بسنوات، قبل بيكاسو تنفيذ الديكورات وتصميم أزياء باليه لأحد العروض التي كتبها صديقه الشاعر الفرنسي كوكتو، لم يكن ذلك القبول بريئاً فقد وقع تحت جاذبية إحدى الراقصات الشابات الروسيات وهي أولغا.
عاد بيكاسو بزواجه مع أولغا إلى الكلاسيكية ورسم لها ولابنهما باولو لوحات تُعد من أكثر اللوحات هدوءاً في مسيرته الفنية، لكن نكد أولغا جعله يتسلل بعد عشرة أعوام أمضاها معها إلى حضن ماري الشقراء التي لفتت نظره ظهر أحد الأيام، أعجبه مظهرها الاغريقي فانطلق اليها من دون تردد، وأمسك يدها وقال: "أنا بيكاسو، سننجز أنتِ وأنا معاً أشياءً عظيمةً!"
 استسلمت ابنة السابعة عشر عاماً بسهولة لإغواء بيكاسو ومغناطيسيته التي لا تقاومها النساء، وانضمت إلى قائمة بيكاسو الذي كان يكبرها بأكثر من ثلاثين عاماً! وظهرت الشهوانية السريالية في أعمال بيكاسو تحت تأثير الشقراء المفعمة بالحياة، وأنجب منها بنتاً أسمياها مايا وبمجيء مايا تمّ طلاقه من أولغا!
عندما انخفض انتاجه سارع إلى تغيير لوني في العشيقات فانتقل من الشقراء إلى السمراء، وكانت هذه المرّة دورا السمراء العنيدة، لكن وعلى خلاف المرات السابقة لم يكن بيكاسو عاشقاً! فقد قال عن دورا: " لم أكن عاشقاً لدورا مار كنت أحبها كما لو كانت رجلاً!" هذا التغيير الخطير استدعى تغيير مرسمه لكنه لم يترك ماري بل كان يجمعهما في مرسمه ليرسمهما!
عادت وتعرضت مقاومة بيكاسو إزاء النساء لأقوى اختبار لها في عشاء له بمطعم على ضفاف السين، ومرّةً أخرى انهارت مقاومته أمام فرانسواز الحسناء ذات الواحد والعشرين ربيعاً. لم يكن انهياراً عادياً لمقاومة رجل في الثانية والستين وظهرت آثار ذلك واضحةً في لوحات بيكاسو في تلك المرحلة، حيث ظهر في أعماله التناسق التام وقوس الحاجبين الأسود والثديان الكبيران المكوران وبدت أعماله رشيقةً مثلها!
أنجب منها ابنيه كلود وبالوما، لكن الهدوء والعذوبة لم تدم معها طويلاً إذ أنّ عدوانية دورا وماري اللتين لم تغادرا حياة بيكاسو جعلتها تغادره إلى باريس مع طفليها تاركةً بيكاسو في حيرة من أمره.
لكن التجربة أثبتت أنّ بيكاسو لا يعيش الحيرة والوحدة طويلاً، فتعرّف إلى جاكلين التي أصبحت موديله وزوجته طيلة السنوات العشرين الأخيرة من حياته، أحبته جاكلين وأسمته "معبودها" ووقعت في سحر بيكاسو العجوز، ويبدو أنّ سحره الرهيب بقي مرافقاً لها حتّى بعد موته، فلم تستطع التخلص من ذلك الداء إلا بالانتحار برصاصة في الرأس بعد عشرة أعوام من رحيل معبودها الساحر.

ليست هناك تعليقات: