في
اللحظة المناسبة تماماً، بلا تعجل أو تأخر، تحرك الجيش المصري ليحرك الأحداث في مصر
في الاتجاه الصحيح. لقد استعان الجيش المصري بالتوقيت العسكري الدقيق بالدقيقة والثانية
لاعلان موقف حاسم بدخول المعركة التي تقرر مصير الثورة المصرية.
بدا
بوضوح، لا سبيل الى الشك في دقته، أن الجيش المصري تحرك من اجل ان يلبي طلب الشعب المصري
بأن لا يترك الثورة المصرية لاحتمالات خطيرة يتقرر مصيرها في صراع يمكن ان يتخذ شكل
الحرب الأهلية. وتبين بوضوح ان الجيش المصري قدّر بدقة حقيقية معنى الذروة التاريخية
عندما تجمعت في ميادين التحرير في كل انحاء مصر مطالبة باستعادة الثورة المصرية مسارها
الفعلي. أكد الجيش المصري ان قراره بحسم الموقف لمصلحة المطالب الشعبية هو استجابة
لهذه الذروة التاريخية.
وفي
قرار الجيش المصري بالوقوف في صف الجماهير ظهر جلياً ان مصر تعيد اكتشاف نفسها. وأن
الجماهير المصرية هي الموجّه الاول، وربما الاوحد، للقيادة العسكرية. سبقته الى الميادين
بملايينها التي عادت تصنع التاريخ مرة اخرى وهتفت ضمن ما هتفت بأن مطلب الجماهير هو
ان الجيش المصري مدعو لأداء دوره. مدعو لدخول التاريخ مرة اخرى.
إن
هذا التحرك الحاسم للجيش المصري جاء في وقت كانت فيه اقليات مصرية تتساءل عن موقف اميركا.
اذ بدا لهذه الاقلية ان اميركا التي انحاز لها حكم «الاخوان المسلمين» لا بد ان تثبت
اهمية هذا الانحياز. لا بد بالتالي ان تستمر في الدفاع عن مصالحها التي ربطتها بحكم
«الاخوان» وأقامت بينهما صلات لم تكن قبلا بهذه الدرجة من العلانية او الوضوح. وبين
هذه الاقلية المتسائلة عن الموقف الاميركي كانت قيادات «الاخوان المسلمين» التي برهنت
على انحيازها للانحياز الاميركي. ومن ثم تكثفت الاتصالات مع واشنطن، ومع من يمثلونها،
في الايام التي سبقت قرار الجيش المصري. وبدا ان قيادات «الاخوان المسلمين» اتخذت موقف
تسليم بأن الجيش المصري لا يمكن ومن المستحيل ان يبتعد عن التوجه نحو اميركا وفي الاتجاه
الذي تتخذه اميركا. كشفت قيادات «الاخوان المسلمين» انها تأخذ مأخذ التسليم ان الجيش
المصري لا بد أن ينحاز لقراراتها انحيازاً لقرار اميركي بدا في تصريحات الرئيس الاميركي
اوباما وسفيرته في القاهرة انه قرار بدعم سلطة «الاخوان المسلمين». لم يهتز هذا الاعتقاد
الاخواني بشكل مؤثر عندما خرجت ملايين كثيفة من المصريين تملأ ميادين العاصمة المصرية
والمدن الاخرى. وكان هذا اول وأفدح أخطاء التقدير من جانب قيادات «الاخوان» الحاكمة.
وظنت هذه القيادات ان الجيش المصري لا يمكن الا ان يستسلم للتفكير في اولوية الموقف
الاميركي، حتى بعد هذا التجمع الجماهيري الذي لا يبدو ان له سابقة في تاريخ مصر والعالم.
ولا شك ان نخبة على الأقل من جماهير «الاخوان المسلمين» بدأت في أعماقها تفكر في الكيفية
التي يمكنها بها ان تحاسب القيادات الإخوانية على هذا الارتكان على موقف اميركي لم
تكن معالمه تلزم احداً في مصر بدعم «الاخوان».
لكن
نخب الجماهير المصرية الشعبية لم تقع في هذا الخطأ، انما سارت وراء الزحف الجماهيري
الى الميادين لتشارك فيه او لتتابعه بأفكارها وبمشاعرها. وبدا التناقض واضحاً بين اتجاه
افكار النخب المصرية واتجاه افكار القيادات والنخب الإخوانية التي وقعت في غواية السلطة
الى حد أنساها قيمة وأهمية رؤية الاتجاه الجماهيري الكثيف. ومن جانبها برهنت نخب الجيش
وقياداته على انها تدرك اهمية متابعة اتجاه الجماهير المصرية. وعندما قرر الجيش المصري
ـ قبل ايام من تاريخ «30يونيو» - ان الموقف يستوجب نشر القوات في أنحاء البلاد بهدف
حماية المناطق ذات الاهمية الاستراتيجية للأمن القومي وذات الحساسية الخاصة في هذه
الظروف، كان من الواضح ان اهتمام «الاخوان» لم يرقَ الى إدراك اهمية هذه التحركات العسكرية.
وربما ذهب ظن القيادة الاخوانية الى حد الاعتقاد بأن الجيش انما يستعد للاستجابة لأوامرها
بحماية الحكم الاخواني. وقد سيطر هذا الشعور الزائف على النخب الاخوانية الحاكمة على
الرغم من ان الجيش أعلن انه يتحرك بانتظار حركة الجماهير في ذلك اليوم المرتقب ولحمايتها
وحماية اهدافها. غير ان نخب «الاخوان المسلمين» الحاكمة كانت تفكر بطريقة تلائم الحكم،
بصرف النظر عن مصالح الجماهير ومطالبها وتحركاتها الهادرة. لهذا استمر «الاخوان المسلمون»
في ممارسة عادتهم المفضلة، عادة الكذب، حينما اتى اليوم الموعود «الثلاثين من يونيو»
ومعه أعظم مظاهرة جماهيرية في التاريخ المصري والعربي والعالمي. وبينما كان العالم
كله يعبر عن انفعاله الوجداني بهذا التحرك وكانت الصحافة العربية والعالمية تبدي انبهاراً
بحجم التحرك الجماهيري للمصريين كانت النخبة الاخوانية تعد مظاهرة للجماعة في منطقة
أضيق كثيراً، على احد جوانب القاهرة، وتظن ان بإمكانها ان توهم الشعب المصري وشعوب
العالم بان هذا التجمع الاخواني يفوق التجمعات الجماهيرية التي احتشدت في كل المدن
المصرية بلا استثناء. ولعل اغرب ما يمكن تسجيله عند هذه النقطة انه بدا ان النخبة الاخوانية
الحاكمة تصدق اكاذيبها. فقد ظلت ترددها عبر قنواتها الاذاعية والتلفزيونية والصحافية
العديدة. هذا بينما كانت للجماهير المصرية وللجيش المصري حساباتهما الواقعية المختلفة
التي اتخذت الاتجاه الصحيح نحو تحقيق هدف اسقاط حكم «الاخوان المسلمين» لمصر. بل لقد
اخذت المؤشرات الآتية من واشنطن تعطي ما يكفي من تأكيدات بأن القيادة الاميركية وجدت
نفسها مضطرة لمراجعة حساباتها امام تيار المعارضة الجارف الذي خلقته الجماهير المصرية
وأمام تحركات الجيش المصري الدالة على انحيازه لهذه الجماهير. ولم يكن مستغرباً في
هذه الأثناء خلال اليومين الماضيين ان الاعلام الاميركي بدأ يسرب انباء عن تهريب الرئيس
المصري السابق محمد مرسي وعائلته الى خارج مصر على طائرة اميركية حملت هؤلاء الى احدى
دويلات الخليج التي ترحب بهم بلا ادنى شك. وبينما ردد الإعلام الاميركي عن مرسي وأفراد
اسرته وتهريبهم قبيل مهلة الثماني والاربعين ساعة التي حددها الجيش لاتخاذ موقف من
جانب كل القوى السياسية ازاء المطالب الجماهيرية، كان الاعلام الاخواني داخل مصر وخارجها
لا يزال مستمراً في ترديد اوهام عن تأييد واسع النطاق من جماهير الشعب المصري للاخوان
وحكم «الاخوان» تمسكاً من هذه الجماهير بالمنحى الديني(...)
مع
ذلك فقد وصفت الليلة التي اعقبت إعلان بيان الجيش المصري بعقل وصوت قائد هذا الجيش
الفريق اول عبد الفتاح السيسي بأنها «ليلة الاخوان المظلمة». اذ كانت تلك الليلة بداية
اعلان وممارسة العصيان المدني الشامل من جانب الجماهير المصرية كاستجابة أكيدة لتحرك
الجيش وما صاحبه من اعلان بحتمية وقوف الجيش المصري في صف الجماهير ومطالبها. ولقد
اعلن هذا العصيان المدني الشامل بصريح العبارة ان نزول الجماهير المصرية بملايينها
كان هو المحرك الحقيقي والوحيد لتحرك الجيش المصري في هذا الاتجاه ذاته. ذلك ان الجيش
المصري يملك القدرات التي تمكنه من منع نشوب حرب أهلية في انحاء مصر في لحظة اليأس
الاخوانية التي لم تعد ترى الا هدف التمسك بالسلطة، حتى في اللحظات التي بدأت تتردد
فيها انباء هروب زعامات «الاخوان المسلمين» الى خارج مصر توقعاً لما هو أسوأ.
إن
الافكار التي تتردد الآن في انحاء مصر تتعلق أساساً بضرورة محاكمة قيادات «الاخوان
المسلمين» عندما يكون الجيش قد وضع قبضته عليهم. وقد ترافقت هذه الافكار مع انباء القبض
على عناصر من «الاخوان المسلمين» تحاول تهريب اسلحة الى داخل مناطق حضرية وريفية متناثرة.
لقد
ساد الابتهاج اوساط الجماهير المصرية المليونية في مدن مصر، وخاصة القاهرة، كنتيجة
مباشرة لبيان الجيش الذي تلاه القائد العام السيسي مساء يوم الاثنين الماضي. ولا شك
ان هذا الابتهاج هو دليل على ثقة غامرة بالنفس. ثقة بأن مطالب الجماهير في طريقها الى
التحقق ابتداءً من ازاحة حكم «الاخوان» الطغياني والفاسد، وبعد ذلك الى اجراء انتخابات
رئاسية مبكرة تحدد من يحكم البلاد في الفترة الانتقالية المقبلة. وبعد ذلك تكليف الشباب،
صانع الثورة الحقيقي والاول، بمسؤوليات في اجهزة الحكم كان يتم إبعاده عنها عمداً.
ولا
يبقى بعد هذا الا مصير جماعة «الاخوان المسلمين» ذاتها، وقد بدا حرص ثوري حقيقي لدى
جماهير المصريين على ان لا تؤخذ صفوف «الاخوان» تحت مستوى القيادات بذنب هذه القيادات
التي راكمت الملايين بسياسات الولاء للسلطة ثم بسياسات تولي السلطة. الامر الذي يدل
على نقاء ضمير الجماهير المصرية واستعدادها الفذ لفهم الضغوط التي تعرضت لها صفوف
«الاخوان» من قياداتها.
لكن
فترة الايام والاسابيع والشهور المقبلة ستكون اكثر من اي شيء آخر فترة مراقبة الجيش
المصري يؤدي دوره التاريخي من جديد في إنقاذ مصر، خاصة بعد كلمة مرسي في الصباح الباكر
من يوم الاربعاء التي لم تترك مكاناً مفتوحاً لأي تفاهم.
تحية تقدير و احترام و حب من كل الشعب المصري الحر الي جيشه العظيم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق