الأربعاء، 7 يناير 2015

لم تكوني سوى بجعة....و لذلك عشقتك قصة قصيرة الكاتبة التونسية عفيفة سعودي سميطي


فوق صفحة البحيرة المتلألئة ، كان سرب البجع الأبيض يسبح بخيلاء آسرٍ... شعاع الشّمس يسطع فيضيء ريشه... و يُحَفِّزُ في لونه النّاصع البياضَ إلى آخر حدود النّقاء...تتيه خطوطه الميّاسة في رقصات بديعة موغلة في التّثنّي... و تنشر في المكان رسما و عزفا... تَعْلق عيناها برقص السّرب حدّ الثّمل ... فقد كانت على الحافّة تجلس ...تتابع بشغف أعناقه الطّويلة التي تسبح فوق الزّرْقة كعلامات استفهام... و تنظر إلى نقاطه البيضاويّة الكبيرة المرتسمة في أسفله... كانت هناك نقاط بيضاويّة أخرى أقلّ حجما... تسبح حوله كهالة...و ترفع سبّابتها في الهواء...لتعيد الرّسم...تبدأ بنقطة الاستفهام الكبيرة... فترسمها ابتداء من المنقار الذي كان يغوص دون كلل ... ثمّ تصعد إلى الرّأس لترسم نصف الدٌائرة ...و تنزلق في منحدر العنق حتّى تمسّ الماء ... و تقف للحظات أمام الشّكل البيضاويّ الذي أسرها منذ أن كانت طفلة... كانت في كل حصّة صلصال تُشكِّلُ بجعةً...و تحرص بجهد طفوليّ على تشكيل طول و انثناء العنق...و على بيضويّة البطن...و ظلّت دائماً ...في حضرة الحلوى و الدّمى و الرّسوم و الطّين ...لا تختار سوى شكل بجعة...حتى التقاها ذات يوم رجل و همس في أذنها... أن حبّها للبجع يُغريه....و أنّها تأسره ...و لم تعد الأشكال تُغريها... فقد أهداها ذات يوم تذكرة ...لبحيرة البجع... وهناك....وقفت ...و نظرت إليه... و حنى كل البجع أعناقه...لروعة عناقها...و منذ ذلك اليوم...و هي تتابع الأعناق الطٌويلة ... ذات الانثناءات الجميلة... و تتساءل عن سر شكلها الذي يشبه علامة استفهام....و تتجشّأُ تلك الأعناق لتجيبها... و تتّسع عيناها و هي تتابع المناقير الصّغيرة الجائعة التي تشرع في التهام الحساء بضراوة دون أن تأبه للألم الذي تُحْدثه في العنق الممدودة لها...و ترفع سبّابتها من جديد ... و ترسم ذاك الألم في الفضاء...حبّا و شغفا بكل نقاط الاستفهام ...ثمّ تقف... و تغادر البحيرة... و في الطّريق...تمرّ بصيدليتها المعهودة... و يبتسم لها الصّيدليّ مرحّبا ... ثمّ يمضي إلى الرّفوف ...و دون أن يسألها يمدّها بالضّمادات و الحفّاظات و الأدوية و قارورة الڤليكوز ... و تعود إلى بيتها...تفتح الباب و تشرع في الابتسام و الغناء... تمدّ عنقها في اتّجاه غرفة صغيرة يغمرها ضوء الشّمس...و تهتف بحنوّ غامر :

- البجع يرسل إليك ريشه الأبيض و أعناقه الطويلة...

و تنظر إليها عينان غائرتان ... بابتسام كبير ...و تقترب منه كبجعة... و تمدّ عنقها و ذراعيها و شفتيها و كلّ جسدها... و تضمّه برفق ... حتى لا توجع جسده الذّاوي...عيناه فقط تبتسمان...في حين كانت عنقه النّحيلة مثقوبة ... و كان هناك أنبوب مغروز فيها و متّصل بآلة تضع فيها كل ثلاث ساعات عصارة خضار ...تطبخها جيدا مع لحم الدجاج...ذاك دأبها منذ عشرين سنة...و منذ أن أخبرها الطبيب... أنه

لن يكون طبيعيّا ... ككل الاطفال ... و أنّ أمامها مسيرة طويلة... كتلك التي يقطعها البجع عند الرّحيل بحثا عن البحيرات المالحة...و أذهلته يومها و هي تجيبه بابتسامة كبيرة :

- سأحبّه أكثر....

فقط... تقطر عيناها و تشهق...كلما فتحت هاتفها و قرأت آخر رسالة أتتها من ذاك الذي عانقته على ملإ من البجع...كان في المطار... و كان كعادته عند كل سفر...يكتب لها تلك الجملة ... " حبيبتي ... أتعرفين أنّ البجع أصبح رمزا للأمومة... لم تكوني سوى بجعة....و لذلك عشقتك..."

تلك كانت آخر رحلة له.. و سقطت الطائرة....و ظلت لسنين طويلة تهرع إلى بحيرة البجع كلٌما خنقها الشّوْق ...

ليست هناك تعليقات: