السبب الأساسى لتدهور الأوضاع السياسية
فى مصرو قيام الشعب بثورتي 25 يناير و 30
يونيو مهما ماقيل عن الخلفيات السياسية و
التآمرية خلفها ، هو سبب اقتصادى فى الأساس، كما أن خروج الشعب بالملايين مرتين للشوارع،
لم يكن مجرد «حراك سياسى» من شعب يخرج مطالباً بحقه فى الديمقراطية، وإنما كان تحرك
شعب ضد تدهور أوضاعه المعيشية، وفشل حكامه الذى يحرمه من حقه الطبيعى فى الحياة.
يقول المحلل السياسي الأمريكي جولدمان في كتاب بعنوان «طليعة السنة: هل تصمد مصر
والسعودية وتركيا فى الشرق الأوسط الجديد؟»، فإن مصر اقتصادياً الآن، صارت فى وضع يشبه
ما كانت عليه المكسيك بعد ثورتها، عندما عانت من أزمة طاحنة فى الدين، وضعت أكثر من
10 ملايين مكسيكى من ضحايا السياسات الاقتصادية الفاشلة فى مرحلة ما بعد الثورة، تحت
رحمة الحكومة، وهو ما دفع معظمهم للهجرة للولايات المتحدة بما غير شكل خريطتها السكانية
للأبد، إلا أن المواطن المصرى لا يحظى بتلك «الرفاهية» التى كان يحظى بها نظيره المكسيكى،
ولا يملك مكاناً يمكنه أن يفر إليه، مهما بلغت صعوبة معيشته.
تلك الحالة الاقتصادية المعقدة فى مصر،
صارت الإرث الذى يتوارثه رؤساؤها فى بداية حكمهم، ويضيفون غالباً إلى تعقيدها خلال
سنوات حكمهم، قبل أن يضع فشل سياساتهم فى حلها نهاية لذلك الحكم. ويصف جولدمان الفقر،
العدو رقم 1 للرئيس المصرى ، بأنه: «عدو عمره 50 عاماً على الأقل، صنعه تراكم السياسات
الاقتصادية الفاشلة للحكومات المتعاقبة التى تركت مصر دولة عاجزة عن تلبية احتياجات
مواطنيها، وغارقة فى حالة اقتصادية ومعيشية أقل ما توصف به هو الخراب، إلى حد أن كثيرين
من بيننا، لن يعيشوا ليروا لهذا الحال إصلاحاً».
ويتابع: «إن التدهور الاقتصادى الذى تعانى
منه مصر، كان ولا يزال السبب الرئيسى لفشل مؤسسات الدولة حالياً، والسبب الذى دفع الناس
للخروج فى مظاهرات فى الشوارع ضد حكم الحزب الوطنى وحكم الإخوان. والواقع أن أمريكا
تفهم ذلك جيداً، وتعرف أن واشنطن لا تملك حلولاً سحرية لإعادة عقارب الساعة للوراء ، ، ومنع أنظمة الحكم التى كانت حليفة لها فى مصر من ارتكاب نفس الأخطاء
التى أدت إلى سقوطها. كما تفهم الإدارة الأمريكية أيضاً أن كل ما يمكنها فعله حالياً،
ليس «وقف» مسار الفوضى الذى يطحن مؤسسات الدولة فى مصر، وإنما «التعامل» بأفضل ما يمكن
مع هذه الفوضى. ربما يأتى الرئيس القادم بوعود وطموحات كثيرة، لكن سيكون عليه أن يواجه
أولاً تلك الحقائق التى يولد منها الفقر ويتغذى عليها»، ويقول جولدمان إن الثابت هو
أن إنتاج مصر من المحاصيل الزراعية لا يكاد يكفى لتغطية نصف استهلاك واحتياجات الناس
منها، وإن الجزء الأكثر فقراً من الشعب يحيا بشكل أساسى على واردات الغذاء من الخارج،
وهى الواردات التى تضع عبئاً على الخزانة المصرية، بما يستهلك سدس الدخل القومى، خاصة
مع تزايد أسعار الغذاء العالمية، ووصول العجز فى الميزان التجارى المصرى إلى درجة خارجة
عن السيطرة فى آخر أربع سنوات من نظام حكم مبارك، وهو ما لعب دوراً رئيسياً فى إطاحة
الشعب به.
والمشكلة الأكبر، كما يرى جولدمان، هى أن
استهلاك المصريين للموارد يتزايد ولكن دون أن يتزايد معه تجهيزهم لكى يصبحوا قادرين
على زيادة دخلهم. فالشعب المصرى لم يتم تجهيزه بالشكل المناسب للتعامل مع اقتصاديات
العالم الحديث، مع انتشار نسبة الأمية فيه لتصل إلى 45%، ولو أن مصر قامت بتعداد قوة
العمل فيها على الطريقة والمقاييس المتبعة فى أمريكا، فستجد أن معدل البطالة فيها قد
يتجاوز فعلياً 40%، وهو رقم يتجاوز معدل البطالة المعلن 13%، خاصة أن ثلث المصريين
ممن وصلوا إلى سن التعليم الجامعى، يقيدون أنفسهم فى الجامعات، ولكن نصفهم فقط هو من
يتأهل للتخرج، وقليل منهم هم من يصلحون للعمل فى وظائف بشروط ومعايير القرن الـ21.
ويواصل: «تلك هى النتيجة المأساوية لـ60
عاماً من السياسات الاقتصادية للحكومات المصرية المتعاقبة. تلك السياسات التى كان كل
هدفها هو إحكام السيطرة السياسية على الشعب، وليس زيادة طاقاته أو رفع قدراته الإنتاجية.
وهو وضع اقتصادى شديد الحرج، أدى لانهيار الحالة السياسية إلى أدنى مستوياتها فى مصر،
حتى إسقاط نظام حكم مرسى».
لا حكومات الحزب الوطنى، ولا حكومة الإخوان،
اهتمت بوضع حل للمشكلات الحقيقية التى تضرب اقتصاد مصر فى مقتل. فتلك الحكومات لم تواجه
واقع أن مصر لا تملك حتى محاصيل زراعية يقوم عليها اقتصادها ويمكنها تصديرها للخارج،
كما هو الحال فى دول أمريكا اللاتينية، التى اشتهرت فى القرن الماضى بوصف «جمهوريات
الموز»، فى إشارة إلى اضطراباتها السياسية المزمنة، وتعدد الانقلابات وتعاقب الحكومات
فيها، لكن كل تلك الحكومات اللاتينية، على اضطراباتها، كانت تملك موارد ومحاصيل زراعية
يمكنها الاعتماد عليها لموازنة الارتباك فى اقتصادياتها.
ويواصل: «مصر أيضاً، ليست مثل دول أوروبا
الشرقية مثل أوكرانيا أو جورجيا، التى كانت مهد «الثورات الملونة»، وألهمت دول «الربيع
العربى» بالإطاحة بالحكام الفاسدين عبر الثورات الشعبية. عانت دول «الثورات الملونة»
الأوروبية من ارتباك فى أوضاعها الاقتصادية بعد تغيير أنظمة الحكم فيها بعد الثورة،
لكنها كانت تملك ما يكفى من القوة البشرية المؤهلة، والأيدى العاملة المدربة، إضافة
إلى ما يكفيها من موارد الطاقة الطبيعية التى ساعدت تلك الدول على الوقوف على قدميها
فى فترة معقولة نسبياً، واستعادة توازنها الاقتصادى بدرجة معقولة بعد الاضطرابات السياسية
العنيفة التى تعقب قيام الثورات».
مصر الآن إذن دولة عانت من حكومات متعاقبة
لا يربطها سوى سوء إدارة الموارد الاقتصادية وتخبط السياسات السياسية والاقتصادية مثل
دول أمريكا اللاتينية، لكنها لا تملك الموارد الطبيعية التى كانت تسند اقتصاد تلك الدول.
وتعانى مصر أيضاً من اضطرابات ما بعد الثورات مثل دول أوروبا الشرقية، لكنها لا تملك
الطاقات البشرية المؤهلة التى عرفت كيف تعيد إلى هذه الدول جزءاً من توازنها الاقتصادى
بعد الثورة، وهو ما يعنى، فى نظر جولدمان، أن هناك أموراً كثيرة ينبغى على مصر أن تقلق
بشأنها حالياً، وأن «قلق» الدول الغربية على وضع الديمقراطية فى مصر، هو آخر ما ينبغى
القلق بشأنه فى ظل «الكوارث» التى تواجهها.
ويرى جولدمان، أن أحد أسباب تقبل المصريين
للجيش، وربما تعلقهم المستمر به، هو أنهم يذكرون جيداً أنه فى كل مرة يواجهون فيها
أزمة معيشية أو أزمة نقص فى الغذاء، يكون للجيش دور فى حل وانفراج هذه الأزمة. وربما
كان هناك تصور سائد بين عامة الشعب المصرى، أنه يمكنهم الاعتماد على الجيش فى الفترة
المقبلة لحل أزمة الغذاء التى تواجه مصر، خاصة أن الجيش، على العكس من الإخوان الذين
كانوا يحكمون مصر فى العام الماضى، يمكنه أن يعتمد على الدعم السعودى والخليجى الكامل
له. كما ظهر واضحاً فى مسارعة العاهل السعودى، الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتقديم التهنئة
للرئيس عدلى منصور فور توليه الرئاسة، وكذلك أعربت الإمارات والبحرين عن ترحيبهما بالمسار
الذى تتخذه الأحداث فى مصر بعد ثورة 30 يونيو. ولم يظل أحد ثابتاً على موقفه الداعم
للإخوان إلا أمير قطر.
أن الفقر كان المحرك الذى يقف وراء غضب
الناس فى ثورتى يناير ويونيو. وهو العدو الذى يقف متربصاً اليوم بكل من يكون في قصر الرئاسة ، و هو التحدي الأكبر أمام الرئيس
السيسي في استمرار الشعب في دعمه ضد
محاولات قوي الاستبداد من النظامين الساقطين من الوطني أو الأخوان و
محاولاتهم استمرار سيطرتهم علي مقدرات مصر و الشعب المصري المطحون و المقهور من حقه في االحياة الكريمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق